توزيع أوّليّ للمسؤوليات عن انفجار المرفأ: هؤلاء كانوا يعلمون


تسبّب إهمال المسؤولين واستهتارهم، من السلطة السياسية إلى الموظفين المدنيين والأمنيين والعسكريين، بتفجير مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020، ونكبة العاصمة. قَتَل سوء تدبير هؤلاء وقلّة مسؤوليتهم أكثر من ١٥٠ شخصاً وجرح الآلاف وتسبب في تدمير مئات المنازل وتهجير أهلها وفقدان عشرات الأشخاص. بيّنت التحقيقات الأوّلية وجود كُتب ورسائل عديدة تُحذّر من خطر مواد نيترات الأمونيوم والتهديد الذي تُمثّله. وفضلاً عن تقرير شعبة المخدرات بخطورة هذه المواد ورسائل مكتب محاماة لإدارة المرفأ عن مدى خطورتها وتقرير الجمارك وتقرير الخبيرة الكيميائية ميراي مكرزل التي كشفت على عيّنات منها، تبيّن أنّ المديرية العامة للأمن العام كانت قد أعدّت تقريراً عام ٢٠١٤ عن وجود هذه المواد الخطيرة في مرفأ بيروت حيث جرى إرساله ضمن البريد الأمني إلى رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية ووزارة الأشغال، بتاريخ ١٦ أيار 2014. كذلك جرت مراسلات بين الجمارك ووزارة المالية، وبين الجمارك والجيش، وبين الجمارك والقضاء. كل ذلك لم يدفع أحداً إلى اتخاذ قرار واضح بنقل هذه المواد من مكان تخزينها، إلى حيث يمكن إتلافها أو استخدامها في تصنيع متفجرات...

غاية التحقيق الجاري أن يُحدد أصحاب المعرفة والسلطة والإمرة والقدرة على تغيير مجرى الأمور، ما سيؤدي إلى تحديد المسؤولين عن كل عمل ودرجات مسؤولياتهم وحدودها. الوثائق التي اطلعت عليها «الأخبار» تشير إلى حقيقة واحدة: المسؤولون كثر. لكن حتى اللحظة، يقتصر التوقيف على مجموعة صغيرة من الموظفين، من دون أي مسّ بأهل السلطة السياسية، كما بالمسؤولين الأمنيين والعسكريين خارج «الجمارك» وإدارة المرفأ

رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة

ورد في تقرير أمن الدولة أنّ المديرية أرسلت بريداً خاصاً في ٢٠ تموز ٢٠٢٠ إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء أبلغتهما فيه عن المواد الخطيرة الموجودة في مرفأ بيروت. غير أنّ المعلومات الأمنية تؤكد أنّ المدير العام لأمن الدولة طوني صليبا أبلغ رئيس الحكومة حسان دياب عبر الهاتف عن ضبط كميات ضخمة من المواد المتفجرة في مرفأ بيروت، قبل إرسال التقرير، على اعتبار أنّه كان يزفّ إليه خبر الإنجاز الذي تحقق. وعلمت «الأخبار» أنّ الاتصال حصل في الثالث من حزيران. وتكشف المعلومات أنّ الرئيس حسان دياب كان في صدد الإعداد لزيارة المرفأ لعقد مؤتمر صحافي للإعلان عن الإنجاز. وقد أرسل دياب ضابطاً لاستطلاع المرفأ والعنبر ١٢، إلا أنّ المصادر نفسها تكشف أنّ الرئيس دياب عاد وألغى ذلك بعدما أبلغه الضابط الذي أرسله أن هذه المواد موجودة في المرفأ منذ 6 سنوات، وليست سوى «سماد كيميائي»، وليست «تي أن تي» أو «سي فور». أما رئاسة الجمهورية، فقد أحالت ما وردها من أمن الدولة إلى الأمانة العامة للمجلس الاعلى للدفاع للمتابعة.

الوزارات المعنية

بيّنت التحقيقات أنّ السفينة التي كانت تحمل نيترات الأمونيوم حُجزت قبل 7 سنوات بناءً على قرار حجز من دائرة تنفيذ بيروت، بناءً على طلب المدير العام لوزارة النقل والأشغال العامة عبد الحفيظ القيسي. وقد تلقّى القيسي رسالة من المحامي جان بارودي أفاده فيها بخطورة المواد الموجودة على متن السفينة المحجوزة. وبالتالي، فإنّ التحقيق الجاري يجب أن يُحدد إذا ما كان وزير الأشغال آنذاك غازي زعيتر ووزير الأشغال الذي تلاه يوسف فنيانوس على معرفة بهذه الشحنات المحتجزة. كذلك فإنّ التحقيق يُبيّن أنّ المدير العام للجمارك أبلغ وزير المالية علي حسن خليل بالمراسلات التي كرر فيها وزير المال الطلب بمراجعة القضاء من دون التصرّف في الأمر، علماً بأنّ وزارة المالية هي وزارة الوصاية على مديرية الجمارك. أما في ما يتعلّق بإعلان وزير الأشغال المستقيل ميشال نجار، فقد كشف عن تلقّيه في الثالث من شهر آب الجاري مراسلة من الأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى اللواء محمد الأسمر مؤرخة بتاريخ ٢٤ تموز. ورأى الوزير نجّار أنّه قد يكون تأخر وصولها بسبب عطلة عيد الأضحى، إلا أنّه كشف أنّه طلب من مستشاره بيار بعقليني الاتصال فوراً بمدير المرفأ حسن قريطم نهار الإثنين الواقع فيه ٣ آب لسؤاله عنها، فأجابه بوجود إشارة قضائية بشأن العنبر الذي تُخزّن فيه نيترات الأمونيوم، مشيراً إلى أنّ المراسلة سُجّلت في الوزارة صباح الرابع من آب، أي يوم حصول الانفجار.

المدير العام للجمارك

التحقيقات الأولية الجارية أدت إلى توقيف المدير العام السابق للجمارك، شفيق مرعي (وصلت السفينة عام ٢٠١٣ أي أثناء فترة إدارته)، والمدير العام الحالي بدري ضاهر (عُيِّن مديراً عاماً للجمارك في آذار ٢٠١٧). مرعي وضاهر لم يتخذا قراراً بإتلاف «نيترات الأمونيوم»، على الرغم من إبلاغ كل منهما، رئيسه المباشر، وزير المال علي حسن خليل. لكن المادة 144 من قانون تنظيم الجمارك تنص على أنّه «يمكن للجمارك إتلاف البضاعة التي يثبت من المعاينة أو التحليل مخالفتها للقوانين والأنظمة». وبما أن مادة نيترات الأمونيوم التي تتجاوز نسبة التركز فيها عتبة الـ33.5 في المئة (وهو ما ينطبق على شحنة الـ2700 طن التي يُشتبه فيها بأنها انفجرت يوم 4 آب في مرفأ بيروت) لا يُسمح بدخولها الأراضي اللبنانية من دون إذن مسبق، كان على الجمارك إما إعادة تصديرها، أو إتلافها فوراً، بدلاً من التلهي بتقاذف المسؤولية مع قاضي الأمور المستعجلة جاد المعلوف الذي أصدر قراراً بتعويم السفينة التي كانت تحمل هذه البضاعة. غير أنّ مصادر قضائية كشفت لـ«الأخبار» أنّ المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري سأل ضاهر عن سبب عدم إبلاغه وزارة الداخلية بالشحنة وخطورتها، فردّ عليه بأنّه لا يمكنه مخاطبة الداخلية، إنما يخاطب رئيسه المباشر وزير المال. وذكر ضاهر أنّ الوزير علي حسن خليل ردّ عليه بالطلب منه مراسلة القضاء بسبب وجود حارس قضائي على البضائع من قاضي الأمور المستعجلة جاد المعلوف. وقد أبرز ضاهر أكثر من مراسلة بينه وبين وزير المال الذي طلب منه مراسلة القضاء مجدداً، حتى بعدما ردّ القاضي المعلوف طلبات الجمارك بالسماح له ببيع شحنة النيترات أو إعادة تصديرها. كذلك كشفت المصادر نفسها أنّ هناك مراسلات بين شفيق مرعي والوزير علي حسن خليل الذي طلب إليه إحالة ردّ قاضي الأمور المستعجلة على هيئة القضايا.

كذلك كشف وكيل ضاهر، المحامي جورج خوري، لـ«الأخبار» أنّ قاضي الأمور المستعجلة وضع المديرية العامة للنقل البري والبحري حارساً قضائياً على نيترات الأمونيوم لتخزينها وحراستها. وبالتالي فإنّ ذلك يعني بحسب القانون أنّ المسؤولية تترتب عليها بحسب المادة ١٣١ من قانون الموجبات والعقود التي تنصّ على أنّ حارس الجوامد المنقولة وغير المنقولة يكون مسؤولاً عن الأضرار التي تحدثها تلك الجوامد، حتى في الوقت الذي لا تكون فيه تحت إدارته أو مراقبته الفعلية.

القاضي بيتر جرمانوس

اتصل المحققون في أمن الدولة لإبلاغ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية السابق بيتر جرمانوس بملف شحنة نيترات الأمونيوم المخزّنة في المرفأ، وأطلعوه على مدى خطورة هذه المواد، لكنّ جرمانوس أبلغهم بعدم اختصاص النيابة العامة العسكرية في هذا الملف، لكون قاضي الأمور المستعجلة أصدر قراراً قضى بإفراغ المادة داخل العنبر الرقم 12. ورغم أن المسألة تتعلّق بالأمن القومي للدولة اللبنانية، وتدخل في نطاق اختصاص استخبارات الجيش، فإن جرمانوس قرر أنها ليست من صلاحيات النيابة العامة العسكرية. ورغم تأكيد جهاز أمن الدولة اتصاله بالقاضي جرمانوس، إلا أنّ الأخير نفى عبر حسابه على «تويتر» تلقّيه أي تقرير أو محضر بخصوص الأمونيوم من أي جهاز. وهنا يُفترض التحقيق للتثبت ممّن يقول الحقيقة من الفريقين، علماً بأن الغالبية العظمى من عمليات التواصل بين الضابطة العدلية والنيابات العامة يتم شفاهياً عبر الهاتف، إلى حين ختم محضر التحقيق المكتوب وإحالته على النيابة العامة.

غسّان عويدات وأمن الدولة

تكشف المصادر القضائية أنّ المحققين في أمن الدولة أبلغوا القاضي غسان عويدات بوجود مستوعب يحتوي على مواد خطرة، لكنهم لم يُرسلوا له التقرير المفصّل للتحقيق الذي أجروه. ورغم أنّهم اكتشفوا الأمر في الشهر الاول من العام ٢٠٢٠، وقرروا الاتصال بالقضاء. لكنهم، بحسب التقرير، انتظروا حتى ٢٩ أيار ٢٠٢٠ ليتصلوا بالمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات ليبلغوه بالقضية، فأشار بفتح تحقيق فوري والاستماع إلى عدد من المسؤولين. استمرّ التحقيق أربعة أيام ليخابروا القاضي عويدات بالخلاصة، فأشار عليهم بوضع حراسة على العنبر وتعيين رئيس مستودع وصيانة الأبواب ومعالجة الفجوة الموجودة في جدار العنبر الرقم 12. غير أنّ ذلك لم يحصل قبل الرابع من شهر آب الجاري. لماذا انتظروا كل هذه المدة طالما أنّ التقرير المرفوع يتحدث عن مواد تهدّد بتدمير المرفأ؟ لماذا لم يتابعوا تنفيذ الإشارة القضائية أو يُنبّهوا هيئة إدارة المرفأ إلى الخطر الداهم؟ يرِد في تقرير أمن الدولة أنّ الجهاز نفسه، بناءً على إشارة القضاء، وجّه كتاباً إلى اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار المرفأ لتأمين حراسة للعنبر وتعيين رئيس مستودع له وصيانة كامل أبوابه ومعالجة الفجوة الموجودة. غير أنّه لم يُذكر في التقرير تاريخ حصول ذلك.

المدير العام لأمن الدولة، اللواء طوني صليبا، كشف لـ«الأخبار» أنّ المعلومة الأساسية التي وصلت إلى المديرية تفيد بوجود فجوة في حائط العنبر ١٢ تُتيح سرقة محتويات العنبر المذكور التي قد تُستخدم في عمل إرهابي. وذكر أنّ التقرير استغرق ثلاثة أسابيع بعدما كشف خبير كيميائي أنّ التركيز يعادل ٣٤.٧ في المئة، لكنه يجب أن لا يزيد على ١٠ ٪. وكشف اللواء صليبا أنّ جائحة كورونا والتعبئة العامة وتوقّف القضاء بناءً على قرارات المجلس الأعلى للدفاع جمّدت الملف لفترة قبل استكماله. وكشف صليبا أنّ مكتب أمن الدولة تأسّس في مرفأ بيروت منتصف عام ٢٠١٩ لممارسة مهام مكافحة الفساد وليس العمل الأمني في ظل وجود باقي الأجهزة الأمنية منذ سنوات. وإذ أكد صليبا أنّ الفجوة الموجودة في العنبر قديمة، أجاب ردّاً على سؤال عن سبب عدم متابعة المديرية إشارة القاضي عويدات بإقفال الفجوة، بالقول إنّ الإشارة كانت تنص على إرسال كتاب إلى رئيس هيئة إدارة المرفأ لإحكام اقفال الأبواب وسد الفجوة وختم المحضر وإيداعنا إياه، مشيراً إلى أنّ مهمة المديرية تنتهي بمجرد طلب ختم المحضر. أما لو كانت الإشارة «ترْك المحضر مفتوحاً، فإنّ ذلك يرتّب علينا المسؤولية». وعلمت «الأخبار» أنّ كتاب أمن الدولة أُرسِل إلى إدارة المرفأ في ٤ حزيران بالتزامن مع إبلاغ مجلس الدفاع الأعلى. كذلك أبلغ أمن الدولة رئيس مكتب مديرية المخابرات في المرفأ العميد طوني سلوم بمضمون القضية.

القاضي جاد المعلوف

بقي ملف شحنة نيترات الأمونيوم يتأرجح لسنوات بين المديرية العامة للجمارك وقاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد المعلوف. أُرسلت عدة مراسلات يطلب فيها ضاهر إعادة تصدير البضائع، لكن القاضي معلوف كان يدوِّن الطلب ويرسله إلى هيئة القضايا في وزارة العدل، التي لم تُجب سوى مرة واحدة بالموافقة على إعادة التصدير. وكلّف القاضي الدولة اللبنانية بمناقشة اختصاصه للبحث في نقل ملكية البضائع خلال مهلة أسبوع. رغم أنّ المادة 13 من اتفاقية «هامبورغ» تجيز إتلاف البضائع وليس فقط نقل ملكيتها في حال كانت خطرة ومن دون دفع أي تعويض لمالكها. واتفاقية «هامبورغ» هي اتفاقية الأمم المتحدة للنقل البحري للبضائع التي وُقّعت عام 1978، حيث عُرفت بـ«قواعد هامبورغ». وهي نظام قانوني موحّد ينظّم حقوق والتزامات الشاحنين والناقلين والمرسل إليهم بموجب عقد نقل البضائع بحراً. وقد بدأ نفاذ الاتفاقية في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1992.

لقد كان يجب على قاضي الأمور المستعجلة، وسنداً لأحكام الفقرة 2 من المادة 579 من قانون أصول المحاكمات المدنية، أي من دون طلب من أحد، اتخاذ القرار بإتلاف هذه المواد الخطرة سنداً لأحكام المادة 13 من اتفافية هامبورغ، من دون الاكتراث لحقوق مالكيها، لأن هذه المادة لا تفرض تسديد ثمنها لهمأو بيعها وفرض الحراسة القضائية على ثمنها، تماماً كما هو الامر بالنسبة إلى البضائع القابلة للتلف بدلاً من قضاء أربع سنوات في إجراء تبليغات وطلب مناقشة اختصاصه ومناقشة السند القانوني لبيع البضائع أو إتلافها.

قيادة الجيش... ومكتب أمن المرفأ

تتولى مديرية المخابرات في مرفأ بيروت ملف أمن المرفأ. وتدخل ضمن اختصاصها مكافحة الإرهاب والتجسس. ويرأس هذا المكتب العميد طوني سلّوم الذي أصيب في التفجير، لكونه أُبلغ بالحريق أثناء وجوده بعيداً، فتوجّه عائداً إلى المرفأ. كذلك يتولى مكتب أمن المرفأ، كما سائر مكاتب وفروع مديرية المخابرات، متابعة كل ما من شأنه أن يمس بالأمن القومي للبلاد. وبالتالي، يدخل في صلب عمل المكتب وجود هذه الكمية من المواد الأولية التي تدخل في تصنيع المتفجرات، والتي كان تنظيم «القاعدة» (على سبيل المثال لا الحصر) يستخدمها لزيادة عصف التفجيرات التي يُنفّذها، مع الأخذ في الاعتبار وجود ثغرة في الجدار الجنوبي للعنبر الرقم 12 ما يُتيح السرقة منها، بحسب تقرير أمن الدولة، فضلاً عن وجود أكثر من تقرير أمني وتقرير خبيرة كيميائية عن مدى خطورة هذه المواد، وذلك كان يفرض على مديرية المخابرات التصرّف لإزالة هذا الخطر، بدلاً من رمي المسؤولية، على اعتبار أنّ الخطر سيطال الجميع. وبرزت في هذا الملف مراسلة جوابية بعث بها رئيس أركان الجيش السابق اللواء وليد سلمان (وقّع المراسلة نيابة عن قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي) إلى المدير العام السابق للجمارك، شفيق مرعي، تبلغه فيها قيادة الجش أنها ليست بحاجة إلى مادة نيترات الأمونيوم البالغ وزنها ٢٧٥٥ طناً. واقترحت قيادة الجيش على الجمارك «مراجعة مالك الشركة اللبنانية للمتفجرات مجيد الشماس لتبيان إمكانية الاستفادة من المادة المذكورة في حال عدم الرغبة في إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ على نفقة مستورديها». اللافت هنا أن قيادة الجيش، وبدلاً من اتخاذ أي خطوة لنزع الفتيل من المرفأ، قررت التصرف كـ«دليل تجاري» بين الجمارك وشركة تجارية. واللافت أيضاً أن كتاب سلمان، الصادر يوم 7/4/2019، يشير إلى وجود مراسلة سابقة بين الجيش والجمارك بتاريخ 19/11/2015.

أما مصادر الجيش فتنفي مسؤولية المؤسسة العسكرية، واضعة الكرة في ملعب مديرية الجمارك. تستعيد هذه المصادر قراراً حكومياً صادراً عام ١٩٩٠، ينص على أن يتسلم الجيش المعابر البرية والبحرية كافة، مشيرة إلى أنّ مسؤوليتها منع دخول الممنوعات. وتؤكد المصادر أنها لا تهتم بصلاحية البضائع الموجودة في المرفأ. وتؤكد المصادر العسكرية أنّ صلاحية الجيش لا تتجاوز صلاحية الجمارك في هذا الأمر. وتضيف: «ساعدنا، عبر مديرية العتاد في الجيش، لأخذ العيّنات… واقترحنا حلولاً على الجمارك. ونطاق صلاحياتنا يتركز في المداخل وفي البواخر العسكرية». وفي اتصال مع قائد الجيش السابق جان قهوجي قال لـ«الأخبار»: «كانت مراسلة من جهاز رسمي لجهاز رسمي. من الجمارك للجيش. لقد كانت نيترات الأمونيوم بعهدة الجمارك وتحت سلطتها بإشارة قضائية، لم تكن مُهرّبة ولم نضبطها نحن. سئلنا عنها فأجبنا بأن لا قدرة لدينا على استيعابها في مستودعاتنا، كما لا يمكننا إتلافها بسبب حجمها الضخم، لذلك اقترحنا في القيادة، وبعد دراسة للملف، اسم مجيد الشمّاس الذي يملك شركة كبيرة لتصنيع المتفجرات، ووحده من قد يملك القدرة على استيعابها». وذكر قهوجي أنّهم اقترحوا على الجمارك إعادة تصديرها بسبب عدم القدرة على إتلافها بسبب خطورتها. أما عن مسؤولية الجيش في هذا الخصوص على اعتبار أن الملف أمنيّ، فقال قهوجي: «الجيش يتحمّل مسؤولية الأبواب، أي الدخول والخروج. أما المواد الموجودة في العنابر فتكون في عهدة الجمارك».


ليس سماداً... ليس سماداً... ليس سماداً...

حسن عليق

منذ وصول باخرة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت عام 2013، نظّمت الدولة اللبنانية العرض العسكري في عيد الاستقلال، أكثر من مرة، في جادة شفيق الوزان المتصلة بمدخل مرفأ بيروت. قبل كل احتفال، يتولى الجيش تفتيش كل «قرنة» في المنطقة الممتدة من جسر فؤاد شهاب جنوباً، إلى البحر شمالاً، ومن الكرنتينا شرقاً، إلى عين المريسة غرباً. لا يُترك غطاء لأقنية مياه الأمطار والصرف الصحي، من دون أن يُفتح بحثاً عن متفجرات. يُنشَر القناصون على أسطح مشرفة لاصطياد أي طائرة مُسيّرة عن بُعد، خشية حملها المتفجرات. تُقفَل الطرق خشية سيارة أو دراجة مفخخة بالمتفجرات. يُفتَّش المارة خشية حمل أحدهم للمتفجرات. الإجراءات نفسها طُبِّقت يوم انعقاد القمة الاقتصادية العربية في بيروت عام 2019، في مكان مطل على المرفأ. لكن أحداً في المؤسسة العسكرية لم يجد نفسه معنياً بوجود 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، أي ما يعادل أكثر من 1100 طن من مادة الـ«تي أن تي» الشديدة الانفجار، على بعد أقل من ألف متر من المكان الذي تجمّع فيه آلاف العسكريين، وكل أركان الدولة، وسفراء دول أجنبية، للاحتفال بعيد الاستقلال. تكرر ذلك على مدى سنوات. الأزمة هنا ليست أزمة نظام وحسب، ولا أزمة فساد حصراً... بل هي قبل ذلك وبعده أزمة كفاءة. غالبية المعنيين بالأمن تعاملوا مع نيترات الأمونيوم بصفتها سماداً زراعياً يمكن استخدامه في تصينع المتفجرات، لا مادة متفجرة يمكنها تدمير المرفأ وأجزاء كبيرة من العاصمة، وقتل العشرات وجرح والآلاف، وتوجيه واحدة من أقسى الضربات إلى الاقتصاد الوطني. سماد زراعي. لهذا السبب، وربما لغيره، لم يكلّف أحد منهم نفسه عناء القول إن ما هو موجود في العنبر الرقم 12 يجب إخراجه فوراً.

داخل العنبر الرقم 12، يمتزج الفساد بقلة الكفاءة بسوء الإدارة بأزمة نظام عاجز عن تنظيم السير بين إداراته المختلفة. ما هي مسؤولية مكتب أمن المرفأ التابع لمخابرات الجيش؟ ما هي مسؤولية مكتب أمن المرفأ التابع لأمن الدولة؟ لماذا اعتبر الأخير وجود النيترات في المرفأ أمراً خطيراً، فيما تجاهل الأول الأمر؟ لماذا قضى الجهازان أربعة أشهر يتشاوران (بين 27/1/2020 و29/5/2020، بحسب ما قال المدير العام لأمن الدولة في اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، وبحسب ما هو وارد في تقرير أمن الدولة بشأن العنبر الرقم 12) قبل إبلاغ النيابة العامة بما في حوزتهما من معلومات؟ لماذا لم يكشف أحدهما على محتويات العنبر؟

السؤال الأخير سببه ما أظهرته التحقيقات. فالسجلات تكشف عن وجود نحو 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، ونحو 23 طناً من المفرقعات، و1000 إطار سيارة، وبراميل تحوي مواد سائلة سريعة الاشتعال تدخل في صناعة مواد التنظيف وفتائل (بطيئة) للتفجير... إلى جانب 50 طناً من فوسفات الأمونيوم. حتى يوم أمس، لم يتمكّن القضاء من تحديد كيفية وصول فوسفات الأمونيوم إلى العنبر الرقم 12. لا سِجلّ يُظهر ملكيتها. مفاجآت العنبر الرقم 12 لا تقتصر على وجود ما سبق ذكره من بضائع مجهولة المالك، بل تتعداه إلى وجود كمية من نيترات الأمونيوم، غير الـ2750 طناً، لا يُعرف وزنها ولا مالكها، إذ كانت موضبة في أكياس غير تلك التي وُضِّبت فيها الـ2750 طناً. مصدرها مجهول.

عند مدخل العنبر الرقم 12، حصلت الفجيعة الكبرى. عمليات التلحيم لسدّ الفجوة لم تحصل يوم 4 آب وحسب. بدأت يوم 30 تموز 2020، واستُكمِلت في الثالث من آب، قبل أن يتم إنجازها يوم الرابع من آب. عصر ذلك اليوم، وصل الحدادون متأخرين. لم يجدوا المسؤول عن العنبر الرقم 12. اتصلوا به ليطلبوا منه فتح الباب، فقال لهم إن دوامه انتهى وصار في منزله، خاتماً حديثه بـ«عودوا غداً». اتصلوا بمسؤولة عنهم في الشركة المتعهدة إجراء عمليات الحدادة لسد الثغر في العنبر، فقالت لهم أن يُنجزوا عملهم في الباب الرئيسي للعنبر وهو مقفل. لم يكن معهم أحد من إدارة المرفأ، ولا من أي جهاز أمني. أنهوا عملهم قبل دقائق من الساعة الخامسة من بعد الظهر، وغادروا المرفأ في تمام الخامسة. بعد نحو 35 دقيقة، بدأ الدخان يخرج من العنبر، فاستُدعيت فرق الإطفاء. ما إن فُتِح باب العنبر «المجهول المحتويات» بالنسبة إلى الإطفائيين، حتى استعرت النيران. عند السادسة وثماني دقائق من يوم 4 آب، وقع الانفجار.

المشكلة اليوم هي في الركون إلى خلاصة تحقيقية أولية تقول إن سبب الحريق هو حصراً «التلحيم فيما الباب مقفل، وبالتالي، لم يتمكّن الحدادون من معرفة إذا ما كانت عملية التلحيم قد أدت إلى سقوط شرر ما داخل العنبر. وهذا الشرر تسبب في الحريق الذي أدى إلى الانفجار». ما الذي يسمح للقيمين على التحقيق بحسم أن الحريق لم يندلع بسبب تدخّل ما، بعد إنهاء الحدادين لعملهم؟ لا شيء، ولا أحد، حتى اللحظة، قادر على حسم هذه الفرضية.


نيويورك تايمز: واشنطن كانت تعلم بوجود النيترات!

حذّر متعاقد مع الجيش الأميركي من وجود مخزن كبير للمواد الكيميائية القابلة للانفجار في مرفأ بيروت قبل أربع سنوات على الأقل من الانفجار الذي وقع الأسبوع الفائت. هذه المواد تمّ تخزينُها في ظروف غير آمنة، بحسب ما جاء في برقية دبلوماسية أميركية، نشرت «نيويورك تايمز» مضمونها أمس.

ورصد خبير أمن الموانئ وجود المواد الكيميائية وأبلغ عنها أثناء تفتيش سلامة الميناء. يقول المسؤولون الأميركيون الحاليون والسابقون الذين عملوا في الشرق الأوسط إنه كان من المتوقع أن يقوم المتعاقد بإبلاغ السفارة الأميركية أو البنتاغون بالنتائج. وبحسب «نيويورك تايمز»، حقيقة أن الولايات المتحدة ربما كانت على علم بالمواد الكيميائية ولم تحذّر أحداً صدم وأغضب الدبلوماسيين الغربيين الذين فقدوا اثنين من زملائهم في الانفجار وشاهدوا العديد من الجرحى.

ونفى مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية أن يكون المسؤولون الأميركيون على علم بالنتائج التي رفعها المتعاقد، وقال إن البرقية التي نقلتها الصحيفة «تُظهر أنه لم يتم إبلاغهم». وقال مصدر رفض الكشف عن هويته إن المتعاقد «قام بزيارة غير رسمية لمرفأ بيروت منذ حوالى أربع سنوات، ولم يكن في ذلك الوقت موظفاً في الحكومة الأميركية أو وزارة الخارجية»، مضيفاً أن «وزارة الخارجية الأميركية ليس لديها سجل بإبلاغ المتعاقد بالنتائج التي توصل إليها حتى الأسبوع الماضي بعد الانفجار».


«الزفرة الأخيرة» لحكومة دياب

قرر مجلس الوزراء، في جلسته التي انعقدت أول من أمس، قبل إعلان رئيس الحكومة حسان دياب الاستقالة، الموافقة على وضع جميع الموظفين من الفئة الأولى، والذين تقرّر أو سيتقرّر توقيفهم بسبب الاشتباه في مسؤولية ما لهم عن تفجير المرفأ، بتصرف رئيس مجلس الوزراء بعد إعفائهم من مهام وظائفهم. كما قرر تكليف الوزراء بالقيام بإجراء مماثل مع جميع الموظفين التابعين لإداراتهم ما دون الفئة الأولى. ويهدف هذا الإجراء إلى قطع الطريق على أي موظف يُخلى سبيله، بما يحول دون عودته إلى ممارسة مهامه السابقة.

توزيع أوّليّ للمسؤوليات عن انفجار المرفأ:  هؤلاء كانوا يعلمون (مروان طحطح)
توزيع أوّليّ للمسؤوليات عن انفجار المرفأ: هؤلاء كانوا يعلمون (مروان طحطح)


تعليقات: