عمال سوريون يتجهون الى بلادهم عند نقطة القاع
عندما اندلعت الأحداث الأخيرة في لبنان منذ نحو أسبوع، كان رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين أنطوان حويك يبحث عن عدد من العمال للقيام ببعض الأعمال اليومية التي تحتاج إليها زراعته، فقد هرب العمال السوريون الذين كانوا يعملون لديه خوفاً من أن يتعرضوا لاعتداءات مثلما حصل في غير منطقة من المناطق التي عاشت التوترات الأخيرة، أو مثلما حصل في أحداث ومناسبات على مدى السنوات الثلاث الماضية.
والسجال بين اللبنانيين عن حاجة الاقتصاد الوطني للعمالة السورية لم يتوقف منذ مطلع التسعينيات، فهم لم يتفقوا على الأسباب والعدد الضروري للبنان، فتولّدت سجالات عدّة، أبرزها عن العدد الفعلي في «زمن الوصاية»، ولكن هذه السجالات لم تعكس إلا البعد السياسي لظاهرة العمالة السورية... فطرف ينفخ في الأرقام ليعكس وجود المخابرات السورية واستغلال سوريا لـ«خيرات لبنان»، إلا أن «النفخ» ساهم في إرساء شكل من أشكال العنصرية التي تغطي حالات العنف ضد العمّال السوريين... وطرف ثان «يضغط» الأعداد بكل الوسائل المتاحة لينفي التهمة... وكلا الطرفين استعان بوسائل عدة ليبرهن صحة نظريته، كان أبرزها الأعداد الوافدة والخارجة من لبنان على المعابر الحدودية، وكلّ منهما كان يفسّر هذه الحركة لتتناسب مع توجهاته السياسية، إلا أنهما تغاضيا عن تفسير يبرر الحاجة إلى هذه العمالة اقتصادياً وصولاً إلى تنظيمها.
■ عمالة دائمة وموسمية
وكانت وزارة العمل قد بدأت في عام 2006 بتنظيم العمالة السورية بالتحديد، وأعلنت تأليف «دائرة تنظيم العمال السوريين في لبنان» بعد محادثات مع الجانب السوري، إلا أن هذه الدائرة الجديدة لم تتمكن، حتى اليوم، من الانطلاق في مهماتها. فالإحصاءات الرسمية عن عدد العمال السوريين في لبنان لا تعكس الواقع، إذ إن الرقم المتوافر لا يتجاوز بضع مئات، لأن هذه النسبة هي التي اضطرت أن تستحصل على إجازة عمل بسبب طبيعة عملها وفق ما قال مصدر في وزارة العمل. ويتوزع العمال السوريون على قسمين: عمالة شبه دائمة وعمالة موسمية.
ويعمل السوريون في لبنان في مجالات المهن اليدوية مثل البناء والتبليط والدهان والنجارة وغيرها، وفي قطاع الزراعة، وفي بعض المصانع، وفي قطاع الخدمات السياحية في الفنادق والمطاعم وكعمال تنظيفات وعتّالين...
ويعتقد رئيس جمعية تجار ومنشئي الأبنية إيلي صوما أن عدد العمال السوريين في لبنان تراجع كثيراً في الفترة الأخيرة، أي بعد عام 2005، حين ازدادت نسبة التحرّش العنفي بهم بشكل كبير. ولم تصدر عن أي جهة رسمية أو خاصة إحصاءات تتعلق بالعمال السوريين في لبنان، ربما بسبب تتالي الأحداث في السنوات الثلاث الأخيرة، إضافة إلى عدم التفريق بين حركة العمالة الموسمية، أي تكرار دخول العمال أنفسهم في المواسم، وبين العدد المشغل بشكل شبه دائم.
■ مقارنة الاستقدام
لماذا يتمسك أصحاب العمل في لبنان بالعامل السوري على الرغم من انتشار الأحكام المسبقة والمنمّطة عنه؟ بالنسبة للمزارعين يقول حويك إن «متوسط الأجر اليومي للعامل السوري في هذا القطاع يبلغ 20 ألف ليرة، أي ما يساوي 520 ألف ليرة شهرياً (أعلى من الحد الأدنى الجديد للراتب)، ولكن يمكن لصاحب العمل أن لا يسجّله في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويبقي حيثيته المالية والضريبية مكتومة عن الإدارات المعنية».
ويرى حويك أن هناك «تعقيدات في وزارة العمل للحصول على إجازة عمل للعمال الأجانب المستقدمين من المزارعين. علماً بأن كلفة العامل البنغلادشي مثلاً لا تتجاوز 200 دولار شهرياً، ولذلك يتجه المزارعون لتشغيل العامل السوري». ورأى صوما أن حاجة أصحاب العمل إلى عمالة منخفضة الأجر منبثقة من «اعتماد مشيدي الأبنية على العمال السوريين بشكل أساسي، لأن التعاطي معهم أسهل وهم يعملون بكد وأجرهم يتراوح بين 10 و12 و15 دولاراً يومياً بحسب رتبتهم».
■ القدرة التنافسية
وثمة سبب إضافي لتشغيل العمال السوريين في لبنان، عدا عن هروب أصحاب العمل من التعقيدات المتصلة بالعمال الأجانب لجهة ما يترتب عليهم من ضرائب ورسوم لوزارة العمل والضمان الاجتماعي وغيرها، إذ إن العدد المعروض من هذا المستوى من العمالة هو أقل بكثير من المطلوب، ويذهب حويك أبعد من ذلك، مشيراً إلى «تحكّم العمالة السورية الموسمية بمستوى الأجور في بعض المناطق البعيدة نسبياً وبحسب المواسم. ففي موسم الزيتون يتضاعف عدد العمال مرات عدة، فيما يبقى الموسم قابلاً لاستيعاب المزيد، وفي موسم البطاطا تأتي عائلات سورية بكاملها للعمل في حقول البطاطا،...».
وتنتظر القطاعات عودة العمال السوريين إلى لبنان لأنها «العمالة الوحيدة المتوافرة في السوق اللبنانية» بحسب وصف حايك، الذي لفت إلى أن اللبنانيين لم يتمكنوا من الحلول مكانها، إذ ليس هناك اليوم عمال سوريون في لبنان «لكن وردنا كثير من الطلبات من المزارعين الذين يبحثون عن عمال، علماً بأن اللبنانيين لا يتقدّمون لهذا العمل». وبالنسبة لقطاع تشييد الأبنية يقول صوما إن موعد استئناف العمل في هذا القطاع «متوقف على عودة العمال السوريين إلى لبنان».
غير أن أصحاب العمل في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات وغيرها، يرون أن قدرتهم التنافسية تتأثر بشكل مباشر بكلفة العمالة، والحل بالنسبة لهم لا يمكن أن يأتي إلا من خلال تحرير سوق العمل من القيود المفروضة على استقدام العمال الأجانب، فهذا الأمر سيرفع قدرتهم التنافسية في مواجهة العمالة المنخفضة الأجر في منطقة الخليج، وسيحدّ من مستوى اعتمادهم على العمالة السورية.
مجرد إشارة
معايير استنسابية
الاستنساب هو ما يفرض نفسه في الإدارة اللبنانية، فالمتعارف عليه بين أصحاب العمل أن لوزير العمل السلطة الاستنسابية لتحديد معايير الموافقة على استقدام عامل أجنبي، على الرغم من وجود قرار رسمي يحصر استقدام العمالة الأجنبية ببعض المهن المحددة، بسبب وجود عدد من المهن المحصورة باللبنانيين فقط، ويمنع على الأجانب مزاولتها.
إلا أن تجارب وزراء العمل الذين تعاقبوا منذ مطلع التسعينيات، يشير إلى ممارسة سطلة استنسابية يمكن الاستدلال عليها من خلال آلية الموافقة على طلب استقدام العمال الأجانب. إذ يرفع صاحب العمل أو طالب الاستقدام كتاباً مبدئياً إلى وزير العمل يطلب منه الموافقة على استقدام (عدد) من العمال، ويحدد فيه نوعية العمل المطلوب والجنسية التي سيستقدم منها وسبب الحاجة إلى هذه العمالة، ويشير أيضاً إلى عدم وجود عمالة لبنانية يمكنها القيام بهذا النوع من الأعمال.
بعد ذلك يدرس الوزير الطلب، فإما أن يوافق عليه أو لا يوافق. وقد يعمد إلى إحالته إلى المؤسسة الوطنية للاستخدام التي تطلب منه القيام ببعض الأمور التي تثبت عدم وجود لبناني قادر على القيام بهذا العمل، وتبحث في طلبات العمل المقدمة في مركز المعلـومات لديها، وتطلب وضع إعلان في 3 صحف لبنانية... فإذا تمكنت المؤسسة من تأمين العامل المطلوب، لا توافق على عملية الاستقدام، وفي حال العكس يسمح الوزير
بالاستقدام.
تعليقات: