محمد سرحان بحّار يبحث عن شاطئ

صداقة مع البحر بعد عشرات السنين
صداقة مع البحر بعد عشرات السنين


جميع روّاد الكورنيش يعرفونه. إنه ذلك الرجل السّاخر أبداً الذي يمازح المارة بلكنة إنكليزية متقنة وهو ينادي على القهوة التي يبيعها؟ أبو علي... رجل لا يشبه سوى بحرٍ عمل فيه أكثر من نصف حياته، وسلّم نفسه لأمواجه تقرّر مصيره من سنة لأخرى

هو من مواليد شبعا عام 1950. غادر قريته بعد أن رسب في امتحانات الصف الخامس. فضّل أن يرمي بنفسه في العاصمة بدل أن يعود إلى المنزل ويتعرّض لتوبيخ والديه. عمل في مقهى شيكاغو في ساحة الدباس، واستمتع بحريته الكاملة بعيداً من رقابة الأهل، رغم إحساسه بالغربة في المدينة ـــ العاصمة. جمع المال ليستصدر جواز سفر بحرياً ويسافر إلى اليونان عام 1968، بعد أن سمع عن فرص العمل المتوافرة هناك على السفن. ففي لبنان، «التوظيف بدو واسطة: مال أو حرمة». تعلّم اللغة الإنكليزية من كتاب «تعلم الإنكليزية من دون معلم»، وساعده «أبناء العرب» في اليونان على إيجاد عمل على متن إحدى البواخر، فأخذه البحر لمدة عشر سنوات. «كانت حياة استجمام وراحة ونسوان» يقول. «غيّرت 4 فصول بشهرين، وصلت إلى منطقة في القطب الشمالي تغيب فيها الشمس لساعتين فقط. شفت جبال جليدية عائمة وهرّوا سناني من أكل الطيب» يقول الجملة الأخيرة اللّماحة بينما تعلو ثغره ابتسامة ماكرة.

فورث لوثةً رهنته للترحالفورث لوثةً رهنته للترحالحين اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، كان أبو علي قد حطّ رحاله في «أرض الأحلام». تخلّف عن اللحاق بالسفينة الراسية على الشواطئ الأميركية وبقي في نيويورك. أفضى فنجان القهوة الذي احتساه في أحد مقاهي نيو جرسي ومشهد المغازلة الصريحة الذي تورّط به مع النادلة إلى توظيفه في ذلك المقهى الذي يملكه اليوناني «كوستاس». عمل 12 ساعة في اليوم، ستة أيام في الأسبوع، لقاء 125$ في الشهر. عاش «بالأسود»، «فدائي» كما نعته العرب المهاجرون الذين كانوا يهربون من صحبته اتقاء للمشكلات. حاول أن يتزوج ليحصل على الإقامة، لكن ذلك لم ينطلعلى بنات «الفرنجة»، فحين أسرّ لصاحبته الكولومبية أنه يأمل الزواج منها، قالت له بصراحة: «إن كان زواجاً لتأسيس أسرة، فهو أمر لا يناسبني، أما إذا كان هدفه الحصول على الأوراق الشرعية، فذلك سيكلفك 10 آلاف دولار». عندها، قرّر البحّار أنه سيسلّم نفسه كالعادة لرياح الظروف ويكمل حياته بال«كارنيه» الذي صنعه شخصياً واعتمده ورقةً ثبوتية وحيدة له. فجواز سفره لا يزال مع القبطان، ولوثة السفن والبحار رهنته للترحال ونزعت عنه هاجس الانتماء.

تابع أبو علي ما تيسّر له متابعته من أحداث الحرب اللبنانية كما نقلتها الشاشات الأميركية. كانت الحياة حلوة في أميركا لكن ليست أحلى من الحياة «في بلاد العرب». كان زملاؤه يتندرون على هؤلاء العرب الذين «يتركون البلاد الثرية والغنية بالبترول، ويأتون للعمل في وظائف متواضعة في الغرب». لم يدم ذلك طويلاً، فسرعان ما داهم مفتّشو «مكتب العمل» المقهى وطلبوا من «أبو علي» اختيار البلد الذي يودّ أن يرحّلوه إليه، لأن الترحيل إلى لبنان مستحيل في ظل الحرب المستعرة. فكانت سوريا. عمل «على الخط» بين سوريا ولبنان، استعاد جواز السفر من لبنان وزار شبعا عام 1982. أرض العائلة التي كانوا يعيشون من زراعتها ضاعت مع «المزارع» منذ عام 1968، والأهل غارقون في فقرهم والبلد «بإيام الخير ما عاش فيه، رح يعيش هلق؟!».

عاد إلى سوريا واستفاد من المرسوم الحكومي السوري الذي «يسمح بتوظيف الرعايا اللبنانيين بسبب الحرب العاصفة في بلادهم». عمل لمدة 12 عاماً في بلدية دمشق كمراقب مخالفات عامة. تزوّج خلال هذه الفترة «عن جوع» من امرأة يثق بها ويحبها، أنجبت له سبعة من الأبناء. هل تعمل؟ كلا، فهي «ست بيت محترمة». وهل النساء اللواتي يعملن هن غير محترمات؟

هنا يرتبك أبو علي قليلاً. فقد شجع بناته على إكمال دراستهن لكنهن لم يرغبن بذلك. كان من الممكن أن يصبحن معلمات مدرسة، أو صيدلانيات، لكنه لم يكن ليسمح لهن بالتوظف في شركات: «لأن أباه لم يسمح لنساء أسرته بالعمل»، فكيف يسمح هو؟ لكنك يا «أبو علي» رأيت ما لم يره والدك الذي عاش ومات في شبعا، بينما أنت جبت العالم. هنا يجيب أبو علي: «لقد قابلت في رحلاتي الكثيرات من النساء صاحبات الأسماء الجميلة، لكنني حين أنجبت، أسميت إحدى بناتي آمنة على اسم والدتي، وأسميت آيات وعلا...».

يطمئن عليهن هناك، في الريف الدمشقي المحافظ حيث لا تزال الأسرة تعيش رغم انتقاله إلى لبنان عام 1995. يزورهم مرة في الشهر، ويرسل لهم ما يجنيه من مسح زجاج المطاعم قبل الظهر وبيع القهوة على الكورنيش بعد الظهر. عمل يجني منه يومياً حوالى 35 ألف ليرة «خيرهم فيهم في سوريا» بسبب فرق العملة. ففي سوريا التعليم مجاني والحياة أرخص والطبابة مؤمنة، أما في لبنان، فلن يستطيع إعالتهم. بذلك، يشعر وكأنه من العمال السوريين الذين يقصدون لبنان للعمل. ورغم ترديده جملة: «بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنّوا علي كرام»، إلا أن سخطه يظهر جلياً في حديثه عن لبنان الذي لم يقدم له شيئاً، وعن «غباء» مسؤوليه وطائفية أبنائه، وانحلال أخلاق مجتمعه واهتمام اللبناني الزائد بالمظاهر. شبعا لا تزال بعيدة... وكذلك إحساس «أبو علي» بالانتماء لهذا الوطن. تساعد هذه المسافة «أبو علي» على التعامل مع محيطه ومجتمعه بتهكم بالغ. يبيع القهوة مردداً جملة بلكنة إنكليزية متقنة، تؤكّد مزايا القهوة في «محاربة السيلوليت». يضرب بذلك عصفورين بحجر واحد: فهو يشرح موقفه على أنه سخرية من اللبنانيين الذين يقولون: «bonjour كيفك ca va؟ ليش ما بتجي لعنّا؟»، كما أنه يسخر من طريقة تسويق مراهم السيلوليت التي يشرح طبيب الأعشاب على الشاشة كيف أنها «يجب أن تفرك على الفخذ باتجاه عقارب الساعة». يمثل أبو علي الإعلان، ويقلّده بحذافيره مع الحركات.

يريد أبو علي شعباً جديداً، فهذا الشعب لم يعد منه أمل. يردّد قصيدة «من وحيه» تقول: «أمة عربية وإن همّت همائمها، لعنة الله على ماضيها وعلى حاضرها». شبعا لا تزال بعيدة... ولن تستردّ بالمقاومة حسب رأيه بل بالسياسة فقط. ضيّعها إهمال الدولة لها منذ إلغاء «فرق الخيالة في الجيش اللبناني عام 1958» وعدم شق طرقها في المقابل. ابتعدت هذه الأرض عن الوطن رويداً رويداً، فتحوّلت في إحدى الفترات إلى بؤرة لتهريب الحشيش من بعلبك إلى سوريا فالأردن باتجاه مصر، استغلّها الشريف ناصر خال الملك حسين الأردني، حسبما يخبره أبناء قريته. قضمت إسرائيل المزارع مع الوقت، وفيها البساتين والأراضي التي يملكها سكان شبعا وتمثّل مصدر رزقهم. كيف يعيشون في شبعا من دون مدخول وهي بلدة يستلزم السكن فيها حوالى 8 براميل مازوت في العام بسبب الصقيع؟

لا تعني «أبو علي» التجاذبات السياسية الحالية. يهمّه الحفاظ على مصلحته. لا يريد سوى استرجاع أرض جدّه في المزارع، وأن يعيش مواطناً مكرّماً يحظى بحياة لائقة في بلد، من المفترض أنه بلده، رغم أنه لم يقض فيه من الوقت ما قضاه في أعالي البحار.

مستر لارسن

يرغي أبو علي ويزبد وهو يتحدّث عن لقائه مندوب الأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسن وهو يتمشى على الكورنيش ذات يوم دافئ من شهر شباط عام 2005. صرخ به من بعيد قائلاً: «مستر لارسن. لست من المرحّب بهم في لبنان». وأمام ذهول مبعوث الأمم المتحدة ومراسل الجزيرة عباس ناصر الذي كان حاضراً الواقعة، طلب أبو علي الاقتراب، فأفسح له «عناصر المخابرات السورية» الذين كانوا يرافقون لارسن، وشرح للمندوب سخطه من موقف الأمم المتحدة من مزارع شبعا. فهي «لبنانية، ولي فيها أراض لو بعتها أشتري في هذه البناية شقتين». كان أبو علي يقصد بناية الأحلام المواجهة للكورنيش. وكان يقصد من تصريحه ذلك الانتقام من السياسيين اللبنانيين الذين لم يتجرأوا ويقولوا ما قاله هو. فمنذ تلك الحادثة، وأبناء قريته يقولون له: «يا ريتنا انتخبناك يا «أبو علي» وما انتخبنا الدكتور قاسم هاشم». يربط أبو علي هذه الحادثة، التي يراها عملاً وطنياً شجاعاً، بالمشكلات التي يتعرّض لها في المقابل من قوى الأمن الداخلي. فقد «كوفئ» عمله الوطني كما يصفه، بتوجيه المخالفات المتلاحقة له كبائع متجول، بدل أن تعمل الدولة على تسهيل حياته و«التغاضي عنه كما تتغاضى عن الكثير من عربات بيع الذرة والفول على الكورنيش».

تعليقات: