(هيثم الموسوي)
أن يُطرح موضوع مجلس الشيوخ في هذه الفترة، فقد أثار مخاوف عديدة كانت مختبئة خلف الأزمات المتلاحقة التي تواجه البلد. الأحزاب المسيحية الكبيرة سريعاً كشّرت عن أنيابها. مجلس الشيوخ تمهيد لفصل المصالح الطائفية عن المصالح الوطنية، بحسب نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي. لكنه بالنسبة إلى القوات والتيار الوطني الحر، ونواب مسيحيين آخرين تمهيد لضياع «الدور المسيحي في النظام». فإقرار مجلس الشيوخ يعني أن التالي سيكون إقرار قانون انتخابي لا طائفي يتعامل مع لبنان كدائرة واحدة، أو مجموعة دوائر كبرى. في الحالتين، ترى هذه الأحزاب في خطوة كهذه ضرباً للمناصفة التي «أكثر ما عبّر عنها هو القانون الانتخابي الحالي». قانون الانتخاب كان عنواناً لجلسة اللجان النيابية المشتركة أول من أمس، إلا أن مجرد انعقاد الجلسة أثار الكثير من الشكوك والأسئلة. معظمها تمحور حول ما يريده الرئيس نبيه بري من هذه الدعوة؟ أو بشكل آخر: هل بدأ ثنائي أمل وحزب الله التحضير للمؤتمر التأسيسي؟ الخلاصة التي خرج بها مصدر سياسي مطّلع تشير إلى أن الجلسة جزء من النقاش السياسي الدائر في البلد حول الصيغة ومستقبل النظام، وهي بهذا المعنى قد تكون محاولة لسحب هذا النقاش إلى مكانه الطبيعي تحت قبة البرلمان.
ثمّة شبه تسليم من الجميع بأن النظام الحالي لم يعد قابلاً للحياة. البديل ليس واضحاً عند أي طرف. حتى دعاة التقسيم لم يحسموا أمرهم. يذهبون إلى صيغة فدرالية أم إلى لا مركزية موسّعة، مالية بالدرجة الأولى؟ في أحد اللقاءات السياسية، يجزم مصدر مشارك أن النقاش وصل إلى حد طرح إحياء المتصرفية! العنوان الأساس لكل ما يجري أن أحداً لم يعد مستعداً لتعويم لبنان الحالي. المطلوب لبنان جديد، لكنّ أحداً لا يعرف بعد أيّ لبنان يريد. هنالك هاجس بدأ يترسّخ عند كثر، و«القوات» أكثر من يعبّر عنه. المطلوب التحضير لساعة الصفر، حيث الخيارات المصيرية. لا أحد يملك التوقيت، لكن في «القوات» من يعتقد أن لحظة البدء جدياً في التهيئة للمؤتمر التأسيسي بما يعنيه ذلك من نهاية لاتفاق الطائف، ستكون بمثابة ساعة الصفر للمطالبة بالتقسيم.
حتى اليوم المطلوب مسيحياً التمسّك بالقانون الحالي. ذلك موقف يجمع حزب القوات الداعي إلى انتخابات مبكرة والتيار الرافض للفكرة. الحجة في عدم الخوض في مسألة مجلس الشيوخ هي الأولويات بحسب ما أعلن النائب جورج عدوان. بالتسلسل الدستوري يفترض وضع خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية وتشكيل هیئة وطنیة برئاسة رئیس الجمهوریة، تضم بالإضافة إلى رئیس مجلس النواب ورئیس مجلس الوزراء شخصیات سیاسیة وفكریة واجتماعیة (المادة ٩٥ من الدستور)، ثم مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي یُستحدث مجلس للشیوخ تتمثل فیه جمیع العائلات الروحیة وتنحصر صلاحیاته في القضایا المصیریة (المادة ٢٢). النائب ألان عون يذهب أبعد من ذلك ليشير إلى أن أي قانون لا يراعي صحة التمثيل هو مرفوض في المبدأ. ببساطة، حتى من ينادي بالدولة المدنية غير مستعد لها. المخاوف من الآخر كبيرة. وإلغاء الطائفية السياسية لا يمكن أن تراعي هذه المخاوف. يقول مصدر يُفضّل عدم الكشف عن اسمه إن وجود أكثرية إسلامية يجعل من أي قانون لا يراعي حقوق الطوائف الأخرى بمثابة انقضاض على هذه الحقوق. «القلق المسيحي» لا يزال عاماً، وهو قلق قد يزداد مع الدخول في تفاصيل مجلس الشيوخ. الرفض مطلق لأن يكون رئيسه درزياً، لأن ذلك سيكون بمثابة تأكيد إضافي على نهاية المناصفة (ثلاث رئاسات إسلامية مقابل واحدة مسيحية).
بالنسبة إلى الفرزلي الأمور مختلفة. من يُطالب بالدولة المدنية وتطوير النظام، إن كان في السلطة أو في الحراك الشعبي، أمامه طريق من اثنتين، إما انقلاب شامل يعاد بعده التأسيس للبنان الجديد أو الانطلاق من المؤسسات لإنجاز قانون انتخابي جديد يوصل إلى الدولة التي تعبّر عن الطموح الشعبي. يضيف: لذلك، اخترنا الطريق الدستورية، أي فتح النقاش في المجلس النيابي. من هنا، يقول إن اجتماعات اللجان ستستمر بوتيرة ثابتة (الاجتماع المقبل سيُعقد بعد أسبوعين)، بالتوازي مع النشاط المجلسي المتعلق بمعالجة الأمور الداهمة، ولا سيما القوانين الإصلاحية. يؤكد الفرزلي أن هذا لا يلغي ذاك. وكما مطلوب معالجة الأزمات الراهنة لا بد من العمل لتطوير النظام، وليس بالضرورة في كل مرة أن ننجز قانوناً انتخابياً قبل أيام من موعد الانتخابات.
أمام النقاش الذي لا يزال في بدايته، والذي يُراوح بين الجدّية والضياع، وجد سمير جعجع ضالته، ليقنع نفسه وجمهوره أن العودة عن قرار الاستقالة من المجلس كانت قراراً حكيماً. انتصار وهمي سعى إلى تحقيقه من خلال تغريدة قال فيها إنه «لولا وجودنا في المجلس النيابي لكانت مرّت بالأمس مؤامرة قانون الانتخاب». علماً أن النواب الحاضرين، وإن تساءلوا عن الغاية من الدعوة في هذا التوقيت، إلا أنهم يدركون أن النقاش كان تحضيرياً وأولياً، فلا نوقشت قوانين الانتخاب المطروحة ولا غيرها.
نواب الأمة يختلفون على أيّ لبنان يريدون
من جهته لم يتأخر بري في الرد على جعجع. فأشار مكتبه الإعلامي إلى أن «كل قوانين الانتخابات السابقة يمكن اعتبارها مؤامرة على مستقبل لبنان ما عدا الاقتراح الحالي». وتوجه إلى جعجع، من دون أن يسميه، بالقول: اقرأ بروحية النصر للبنان وليس على الفريق الآخر.
الضياع وصل إلى داخل الكتل أيضاً. كل نواب «القوات» قدّموا مداخلات في الجلسة، لكنهم لم يكونوا على الموجة نفسها. منهم من تمسّك بالنظام الحالي، ومنهم من أكد أن الوقت ليس وقت مناقشة مصير النظام، وآخر اعتبر لبنان دولة مركّبة وليس دولة وحدوية، ولم يفت أحدهم المطالبة بالقانون الأرثوذوكسي.
خلاصة الجلسة أن الحزبين المسيحيين الكبيرين غيرُ مستعدّيْن للموافقة على إلغاء الطائفية السياسية، حتى إن طرح بعض نوابهما للعلمنة الشاملة لا يقدم سوى لضرب فكرة إلغاء الطائفية. بالرغم من المداخلات الكثيرة التي شهدتها الجلسة، إلا أن التكاذب كان سيد المداخلات. قال النائب علي فياض ذلك علناً. فياض أبدى قلقه من الطروحات التي يُفترض أنها انتهت مع انتهاء الحرب الأهلية. واعتبر أن الأولوية هي للبحث في الأسئلة العميقة التي تؤدي إلى الاستقرار وإلى معالجة المشاكل البنيوية للنظام. فالسؤال الفعلي لا يُفترض أن يكون كيف تُشكّل الحكومة بل كيف تعالج أزمة تشكيل الحكومات؟
ماذا يمكن أن تناقش الجلسات المقبلة، إذا ظل السقف هو عدم إطلاق مسار إلغاء الطائفية؟ قد يقتصر النقاش على البحث في الخطوات الإصلاحية بما لا يوقظ مخاوف الأحزاب المسيحية الكبرى. فهل يمكن أن ينتهي الأمر بالبحث عن تعديلات على قانون الانتخابات تكون أقصى أهدافها كسب مقعد من هنا ومقعد من هناك؟
تعليقات: