يرتفع عدد "المفقودين" من لائحة الضرورات اليومية للمواطنين. فبعد اختفاء المازوت وشبه فقدان للبنزين واختفاء الادوية من الصيدليات، ناهيك باختفاء الدولار، بدأت اللائحة تطول لتشمل فقدان السيولة بالعملة اللبنانية، حيث بدأت المصارف تقنن تسليمها لأصحابها نتيجة قرار مصرف لبنان وضع سقوف للمصارف لما يمكن أن تسحب من حسابها الجاري لدى مصرف لبنان، وعند تخطي هذه السقوف تُحتسب المبالغ المطلوبة من حسابات المصارف المجمدة لدى مصرف لبنان.
واستناداً الى مصادر في جمعية المصارف، فإن مصرف لبنان يهدف من تعميمه الى تخفيف الكلفة الناتجة من جراء الفوائد المرتفعة التي يدفعها للمصارف عن حساباتها المجمدة لديه، اضافة الى الحد من التداول بالليرة، خصوصا انها تُستخدم لشراء الدولار من السوق السوداء، بما يحد تاليا من ارتفاع سعر صرف الدولار.
وإذا كانت خلفية قرار مصرف لبنان الحد من تفاقم الكتلة النقدية في الأسواق للحد من استخدامها لشراء الدولار الاميركي من السوق السوداء، فإن بعض المصارف اتخذته ذريعة غير مبررة لخفض سقف السحوبات لعملائها الى حدود غير منطقية وغير عادلة، وخصوصا عند المصارف التي اعتمدت سقف المليوني ليرة شهريا. فهل يعقل في زمن التضخم المريع والارتفاع الجنوني للاسعار، فيما اللبنانيون على ابواب عام دراسي جديد، أن يكفيهم مبلغ زهيد كهذا؟
والسؤال ايضا: كيف لمن يتقاضى راتبا فوق المليوني ليرة أن يحصل عليه كاملا، أو هل سيحتجز المصرف ما بقي منه؟ هل هو "هيركات" على الرواتب؟ ألا تعتقد المصارف التي تبنت هذا القرار أنها تدفع بغضب الشارع نحوها، خصوصا ان سمعتها تأثرت كثيرا منذ بداية الثورة، فيما قدرتها على السير بهذا القرار غير الشعبي، غير مضمونة النتائج الشعبية والاقتصادية؟
قبل أيام، اعتمدت معظم المصارف اجراءات جديدة تجاه مودعيها منها وضع سقف أقصى للسحب النقدي بالليرة إلى ما بين مليونين و4 ملايين ليرة لبنانية حداً أقصى، وتقليص سقوف السحب بالليرة على ماكينات الصراف الآلي، فيما زاد بعضها الآخر اجراء وقف عمليات الدفع عبر الصندوق. وإذ تؤكد مصادر مصرفية أن مصارف أخرى ستشرع في هذه الاجراءات بدءا من اليوم او الاسبوع المقبل، مع امكان خفض المبالغ المسموح بسحبها من الصرافات الآلية، اعتبرت ان الحد من السحوبات بالليرة هدفه عدم استخدام السحوبات للمضاربة على الليرة من خلال شراء الدولار، كما تشكل الخطوة محاولة من مصرف لبنان لإجبار مخزّني العملة اللبنانية والاجنبية على ضخها في الاسواق لتغطية مصاريفها عوض اقفال الطريق على هذه الجهات التي تعمل على استنزاف احتياط مصرف لبنان بالعملات الصعبة واجباره على ضخ العملة اللبنانية في الاسواق مما يتسبب بمزيد من التضخم.
ولكن ماذا عن الشيكات التي تبلغ قيمتها أكثر من المبلغ الذي حدده المصرف للسحوبات؟ لا جواب محدداً من المصارف عن هذا الموضوع، ولكن مصادر الجمعية تؤكد أنه يمكن ايداعه في الحساب ومن ثم قبضه عبر الصراف الآلي. ووفق المعلومات، فقد زاد مصرف لبنان من إجمالي العملة الوطنية المتداول منذ بداية عام 2020 بنسبة 125%، أي أنه ضخ خلال 10 أشهر 13 تريليون ليرة في السوق، وهو رقم أعلى من إجمالي الليرة المطبوعة منذ عام 1977 حتى نهاية عام 2019.
رئيس جمعية المصارف سليم صفير اكتفى بالتأكيد لـ"النهار" ان الاجراء الذي اتخذه مصرف لبنان "هو أمر روتيني أقدم عليه حاكم المصرف رياض سلامة انسجاما مع صلاحياته ودوره في ادارة عمليات النقد في البلد"، مشددا على ان "السيولة متوافرة وهناك ما يعادل 7 مليارات دولار اميركي بالليرة اللبنانية متوافرة نقداً في الاسواق. لذلك لا ضرورة للاسترسال بالتحليلات وتسويق الشائعات". ومثله كان رأي الخبير المالي والمصرفي غسان العياش، إذ أكد أن "بعض المتعاملين في السوق تسرّعوا في التعبير عن ردّة فعلهم على الترتيبات التي يتوقّع اتخاذها من مصرف لبنان بشأن سحوبات المصارف من إيداعاتها الجارية لديه بالليرة اللبنانية. فقد تضخّمت التفسيرات والتأويلات بشأن هذه الترتيبات قبل صدور تعميم عن المصرف المركزي بحسب الأصول، والمتوقع نشره خلال يومين... فحتى الآن تمّ تبليغ المصارف شفهيا فقط بفرض سقوف مستجدّة على سحوباتها النقدية من أرصدتها الجارية بالليرة اللبنانية في البنك المركزي. ومن الضروري التركيز على أن التدابير الجديدة المنتظرة تشمل السحوبات النقدية فقط مما يقلل آثارها النقدية والاقتصادية." ويرجح العياش ان قرار مصرف لبنان خفض سقوف السحوبات النقدية سببه "الضغط على نموّ الكتلة النقدية بالليرة للحدّ من صعود معدّل التضخّم. فسنة 2020 شهدت منذ بدايتها تضخّماً في حجم الكتلة النقدية التي زادت بنسبة 111%. ومن المعروف أن تضخم الكتلة النقدية يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار".
أما السبب الثاني لتدابير المصرف المركزي فهو "السعي لتخفيف الطلب على العملات الأجنبية لدى الصرّافين وتاليا انخفاض سعر صرف الليرة في التعاملات مع الصرّافين، والتي تنحصر فيها عمليات القطع حاليا. وحيث إن الصرافين يبيعون الدولار في مقابل النقد اللبناني ولا يقبلون الشيكات، فإن التضييق على كمية النقد المتداول يلجم عمليات الصرافين". وفي تقويم سريع لهذه التدابير، اعتبر العياش "أن السلطة النقدية تلجأ إلى طرق استثنائية وغير طبيعية لحماية الليرة ولجم ارتفاع الأسعار، وهي طرق غير فعّالة، فيما الطريق الطبيعي لذلك هو في انتظام الحياة السياسية والدستورية والشروع في الإصلاح".
الخبير المصرفي نسيب غبريل أكد أن السيولة الموجودة في المصارف "تختلف من مصرف الى آخر"، مذكّرا بانه "في بداية الازمة كانت ثمة مصارف تسمح بسحب الدولار أكثر من غيرها". واعتبر أن الهدف من قرار مصرف لبنان "خفض حجم الكتلة النقدية التي ارتفعت في الأشهر التسعة الاولى على نحو غير مسبوق في السوق بما ساهم بزيادة نسب التضخم". وقال: "لنفترض أن الهدف من القرار هو خفض السحوبات من المصارف، فذلك يتوقف على مستوى السيولة بالليرة في كل مصرف، كما هي الحال بالنسبة الى السحوبات بالدولار". وعزا سبب قرار مصرف لبنان الى "منع استخدام الليرة بالمضاربة لشراء الدولار، ولجم التضخم من خلال تباطؤ ارتفاع الكتلة النقدية في السوق، خصوصا ان السيولة بالليرة ارتفعت 111% في الأشهر الثمانية الاولى من السنة الجارية و294% بين آب 2019 وآب 2020، بمعنى آخر فإنها ارتفعت من 5246 مليار ليرة في آب 2019 الى 20700 مليار ليرة في آخر آب 2020". إلا أنه يعود ويؤكد ان "هذا الحل لا يجدي نفعاً، بل بالاصلاحات وتوحيد سعر الصرف وتغيير آلية الدعم ووضع السيولة بالعملات الاجنبية". وكما هو واضح في تعميم مصرف لبنان، فإنه لم يحدد سقوف السحوبات للمصارف بالليرة اللبنانية. "ولكن عمليا إذا وصلت المصارف التجارية في سحوباتها الى السقف المحدد لها فهي ستتوقف عنده ولن تكمل سحب حاجاتها من الحسابات المجمدة تجنّباً لخسارة الفوائد الناجمة عن هذه الودائع، وستقوم هذه المصارف بتحديد سقوفات سحب الليرة على المواطنين. وبذلك يكون مصرف لبنان قد ألقى عبء هذ الأمر على المصارف التجارية التي ستصبح المسؤولة عن شح السيولة بين أيدي المواطنين"، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي أيمن عمر. وإذ يؤكد أن "تجفيف السيولة بالليرة سيؤثر في الكتلة النقدية المتداولة، وتاليا في الطلب على الدولار"، إلا أنه يرى "ان تأثيره على سعر صرف الليرة سيكون محدودا، فيما المعالجة الحقيقية تبدأ من معالجة وضع الميزان التجاري ووضع العجز في الموازنة العامة. والأكيد أن معيشة الناس ستتأثر كما قدرتهم على تلبية حاجاتهم في ظل انخفاض السيولة بين أيديهم، فيما المتضرر الأكبر سيكون موظفي القطاع العام".
وبرأي عمر فإن "الأخطر من ذلك كله أننا نرسّخ بهذا الأمر آليات الأنظمة الإشتراكية وإجراءاتها وندقّ مزيداً من الاسفين في نعش نظامنا الليبرالي الحر، بل إننا نخالف الدستور اللبناني وكفالة حريتنا وتصرفنا في أموالنا كيفما نشاء وفق القوانين المرعية!".
في انتظار اجتماع جمعية المصارف مع حاكم مصرف لبنان لوضع النقاط على الحروف، هل تبادر جمعية المصارف الى سحب هذا المسمار الذي يضاف الى المسامير التي تُدق في نعش الاقتصاد اللبناني؟
تعليقات: