أحد المجمعات التجارية
منذ بداية الأزمة الاقتصادية الكارثية، ومع ارتفاع ال#دولار وتراجع القدرة الشرائية لدى اللبنانيين، كرّت سبحة المحال والمؤسسات التجارية التي أقفلت. آخرها كانت العلامات التجارية العالمية التي تمتلك ترخيص امتيازها شركة "دارين انترناشيونل" التي قرّرت إقفال معظم محالها في تاريخ 28 تشرين الأول.
إقفال هذه العلامات لم يشكّل صدمة وأكدّ المؤكد بأنّ وضع لبنان الاقتصادي هو فعلاً كارثي، فانسحابها يدلّ على فقدان ثقة القيّمين عليها بلبنان وباقتصاده. لكن ما الدلالة الاقتصادية لهذا الإقفال، وما هو مصير قطاع التجارة، ولا سيما الألبسة، بعد غياب هذه العلامات، في ظل الحيّز المحدود للصناعة اللبنانية؟
العلامات التجارية العالمية، لكونها معروفة أكثر من غيرها، تسيطر على مشهد الإقفال، لكنّ هذه الظاهرة تطاول كل المؤسسات التجارية الصغيرة منها والكبيرة، القديمة منها والجديدة، في بيروت والمناطق، وثمة أعداد كبيرة من المحال غير محال العلامات العالمية تقفل بصمت.
يعني ذلك، وفق رئيس جمعية تجار بيروت، نقولا شماس، أنّ التعثّر المالي أوصل بالمؤسسات إلى حدّ الاختناق، "ونحن في الجمعية نرصد هذا الموضوع منذ 10 سنوات، ومررنا بمراحل عدة وصولاً إلى العام الحالي، وهي مرحلة الانهيار والموت السريري".
وعن مصير قطاع الألبسة وغيره بعد إقفال هذه المحال كلّها، يفيد شماس أنّ "لبنان هو صالة عرض ونقطة استقطاب للسياح العرب، إذاً نحن معنيّون بعرض أكبر تشكيلة ممكنة من السلع والأصناف. وفي ظل غيابها، لن تتأثّر التجارة فقط، إنّما السياحة أيضاً، فالسياح يشكلّون ما يُسمّى بالـ tourism shopping، أي نقطة التقاطع بين السياحة والتجارة، كما أنّ غياب هذه العلامات التجارية سيضرب الاستهلاك. هذه كلّها فرص ضائعة للموظفين وللتجار وللدولة من خلال الإيرادات المنقوصة، وصورة لبنان وسمعته، "فكيفما نظرنا إلى هذا الواقع نراه مأساة موصوفة للقطاع التجاري"، لكن لبنان قادر على الخروج من هذه الأزمة، وحينها هناك إمكانية استرجاع على الأقل جزء من هذه العلامات، و"لن نقطع الأمل لكن لا يخفى أنّها مشكلة حقيقية وتعبّر عن شعور عدم ثقة الخارج بالاقتصاد وبالدولة اللبنانية".
وفي السؤال عمّا إذا كانت الصناعة المحلّية قادرة على تلبية السوق اللبنانية في ظل ارتفاع سعر الدولار، يجيب شماس أنّ "الصناعة الوطنية في الظروف الراهنة مطالَبَة بأن تلعب دوراً أكبر وهذا أمر مُرحَّب به". فقبل اندلاع الأزمة وقبل عام 2019، "كنّا نساهم في تسويق 10 مليارات دولار من منتوجات الصناعة اللبنانية، فنحن الحليف والمؤمن الأول بالصناعة اللبنانية وسنبقى كذلك". لكن حالياً، تعاني الصناعة من عراقيل استيراد المواد الأولية، ومشكلة السيولة، فالقيود المصرفية تطاول الجميع لا سيما الصناعة، لذا "لا أرى أنّ أحداً في المدى المنظور سيكون قادراً على أن يملأ الفراغ الكبير الذي يطاول الاستيراد".
وبعد إحصاء عينة من المؤسسات التجارية التي تحظى بوجودٍ كبير، وجدت جمعية تجار بيروت أنّه منذ نهاية عام 2011 حتى اليوم، تراجع النشاط التجاري وسطياً بنسبة 80%. وخلال هذه الفترة، أقفل ما لا يقلّ عن ثلث المحال والمؤسسات التجارية، والهبوط الكبير حصل في الأشهر الأخيرة، وهو هبوط يوازي الثماني سنوات الأخيرة، أي أنّ وتيرة الهبوط كانت صاروخية ومخيفة ومعها إقفال المؤسسات، "فكما ينتشر وباء كورونا يمكن أن نسمّي ما يحصل في التجارة بـ "الكورونا التجارية" كما يصف شماس، أي أنّ هناك تفشّياً سريعاً وكبيراً في ظاهرة الإفلاسات التجارية التي خرجت عن سيطرة الدولة، و"نحن أصحاب القطاع بذلنا كل المجهود اللازم لكن الدولة خذلتنا".
إقفال العلامات التجارية يعني فشل الاقتصاد الحديث
الدلالة الاقتصادية لإقفال العلامات التجارية العالمية تكمن في مراكمة الخسائر، ففي التسعينيات استقطبت بيروت هذه العلامات واعتبرنا نفسنا عاصمة الماركات، أمّا الآن فإنّنا نودّعها في مشهد معاكس تماماً. مشهدٌ يدلّ على أنّنا فشلنا كاقتصاد حديث ومتطوّر. فبنظر رئيس جمعية تراخيص الامتياز، يحيى قصعة، نحن نخسر #امتيازاتنا التفاضلية واحدة تلو الأخرى، وهذه خطوة تعيدنا إلى الوراء طبعاً، لكنّ الخطر سيقع عندما تسحب المجموعات التجارية جميع محالها، لأنّ عودتها إلى لبنان يحتّم الدخول في آلية شبيهة بالتي خضناها في التسعينيات، إذ لم تكن رحلة استقطاب هذه العلامات إلى لبنان سهلة.
وعن مستقبل قطاع الألبسة في ظل اعتماد لبنان على الاستيراد، يلفت قصعة إلى أنّ في لبنان صناعات راسخة وتجلب قيمة مضافة، إلى جانب الصناعات الصغيرة. ومن الممكن تطوير منتجات وفتح محال لبيعها محلياً، "لكن الخطر يكمن في ماهية هذه الصناعات الجديدة التي سنقوم بها"، معلّلاً أنّه "عندما قمنا بها سابقاً، كانت هناك مقوّمات لإدخالها في الأسواق المحلية، لكن الآن صار ذلك صعباً جداً في ظل غياب السياح وتراجع القدرة الشرائية، وغيرهما من العوامل المساعِدة".
الإصلاح التلقائي عبر الصناعة المحلية
العوامل الأساسية لإقفال محال العلامات التجارية المستورَدة، هي أولاً الركود الاقتصادي، فكثيرون فقدوا وظائفهم، وكثير من المؤسسات قلّص الرواتب، بالتالي انخفضت القدرة الشرائية لدى الناس، كما انخفض الطلب على هذه المنتجات بسبب عدم إقبال السياح على لبنان. ويشرح رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية، منير راشد، أنّ أصحاب هذه المؤسسات خسروا كلّ دخلهم أو جزءاً منه، وانخفضت أرباحهم، وذلك يؤثّر في الدخل القومي (وهو مجموع الأرباح والأجور)، ويؤدّي إلى ازدياد البطالة.
وفي تفاصيل حديثه، أنّ الخسارة لحقت بصاحب العمل والموظفين وبجميع النشاطات الاقتصادية المرتبطة بهذا القطاع، إذ تُشغّل هذه المحال موظفين في مجالات مختلفة، كالمبيعات والمحاسبة والتخزين، وتتعامل مع شركات تأمين وشركات إعلانات، كما أنّ أصحاب العقارات التي أجّرت أصحاب المحال، تكبّدوا خسائر كذلك. وثمّة مفهوم اقتصادي، يسمّى بـ "المضاعف"، أي إنّ راتب الموظف ينفقه في أماكن عدة كالحلاق والسوبرماركت وغيرهما، أمّا الآن، فأصبح لدينا مضاعف عكسي، أي إنّ الموظف لا ينفق.
والعلامات التجارية التي أقفلت، فقدت الأمل بأن يتعافى لبنان اقتصادياً، فالقيّمون على هذه العلامات يرون الخلافات السياسية وغياب أي إصلاحات، مع تراجع قيمة الليرة اللبنانية، وضبابية السياسة النقدية في ظل غياب سعر صرف ثابت، مما جعلهم يفقدون الثقة بلبنان، إضافة إلى رؤيتهم اللبنانيين يهاجرون. وهناك فوضى في إدارة البلد برأي راشد، وقد ينتظرون لأن يستعيدوا هذه الثقة كي يعاودوا الاستثمار هنا، وقد يستغرق ذلك سنة أو سنتين، ولا تتوقّع عودتهم بسرعة.
في بلدٍ كلبنان قائم على الاستيراد، وحيث هناك صناعة محلية محدودة، ما يمكن أن يساعدنا هو إقامة إصلاح تلقائي، وفق راشد. ففي ظل عدم إمكان إيقاف هبوط سعر الليرة اللبنانية، سيشجّع ذلك الصناعة الوطنية كبديل للسلع المستورَدة، وسنشهد هذه الصناعات عبر تقليد الأثاث الإيطالي مثلاً، وبدأ نشاط حديث هو صناعة الفودكا والجين في لبنان، وقد نصدّر من هذه الصناعات، إذ أصبح لإنتاجنا قدرة تنافسية وسننتج سلعاً شبيهة بالعلامات لكن ليست بالنوعية عينها.
تعليقات: