المجاهد الكبير الرائد سي لخضر بورقعه
حين تخرج حشود من الشباب الجزائري، رغم جائحة الكورونا، في تشييع المجاهد الكبير الرائد سي لخضر بورقعه الى مقبرة سيدي يحيى حيث أراد بورقعه ان يدفن الى جوار رفيقيه في النضال عبد الحميد مهري (ثاني الأمناء العامين في المؤتمر القومي العربي) ويوسف بن خده رئيس الحكومة المؤقتة أبّان الثورة التحريرية، كان شباب الجزائر يعبّرون عن تقديرهم لجهاد الرجل قبيل الاستقلال ولصلابته المبدئية في عقود ما بعد الاستقلال، بل كانوا أيضاً يعلنون التفافهم حول معادلة رسمها المجاهد الكبير خلال عهود الاستقلال، وهي " معارضة تحت سقف الوطن ووطنية أفقها العروبة".
فالرجل الذي أختار المعارضة منذ الأيام الأولى للاستقلال ولم يتولى أي منصب رسمي بعد 1962، سوى عضوية أول برلمان تأسيسي ضم كل أعضاء المجلس الوطني للثورة، اختار أيضاً لمعارضته كما فعل معارضون آخرون كبار كاحمد بن بلة، وحسين آيت احمد ، وكريم بلقاسم، ، وعبد الحميد مهري، ومحفوظ نحناح، وعبد الله جاب الله ، وأنور هدام سقفاً هو وحدة الجزائر، بكل مكوناتها، واستقرارها وأمنها، رافضاً بشكل خاص كل استقواء بالأجنبي على النظام الذي يعارضه...
وكان دائماً يردد في أحاديثه، لبعض المعارضين العرب ، وبينهم معارضون سوريون ممن " استنجدوا " بتدخل أجنبي للتخلص من النظام في بلادهم، " من عادة الثورات التي نعرفها ان تسعى لطرد الأجنبي من بلادها ولم أر في حياتي ثورة تسعى لاستدعاء الأجنبي الى بلادها".
كما كان يحرص رغم معارضته الواضحة للسلطة في بلاده على التحذير من انزلاق المعارضين الى فتن وحروب داخلية، كما جرى في الجزائر خلال " العشرية الدامية "، التي عرفتها بلاده في العشر الأخير من القرن الفائت...
"الوطنية" عند بورقعه هي سقف أي تحرك سياسي معارض او موال، بل هي مقياس سلامة أي موقف او ممارسة سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، بل كانت الوطنية هي الاطار الذي يوحد أبناء الوطن الواحد، على اختلاف اعراقهم وطوائفهم ومذاهبهم، فكان وهو العربي الجذور، ابن بلدة المديه في غرب الجزائر ، الأكثر تفاعلاً مع اخوانه الامازيغ، الذي كان يدرك تماماً دورهم في حرب التحرير الوطني، كما في رفضهم كل المخططات الفرنسية للايقاع بينهم وبين بقية الجزائرين، وكان شعاره في ذلك كله قول الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء الجزائريين والامازيغي الأصل:
شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله او قال مات فقد كذب
او رام ادماجاً له رام المحال من الطلب
وبقدر ما كانت وطنيته سقفاً لمعارضته، كانت العروبة، وروحها الإسلام، أفقاً لوطنيته، فكنت تراه مندفعاً الى كل الميادين التي تخوض فيها أمته العربية معاركها وفي المقدمة منها فلسطين، التي لا أنسى حجم ابتهاجه بحراك فبراير 2019 الشعبي حين كان يرى علم فلسطين مرفرفاً الى جانب علم الجزائر ويقول لصديقه ورفيقه وأبنه الروحي كريم رزقي :" فرحتي بالحراك فرحتان، فرحة وطنية بحيوية شباب الجزائر وفرحة قومية بانتصار الجزائريين لفلسطين".
في الانتصار الجزائري لغزة، كان بورقعه حاضراً في كل المبادرات سواء داخل الجزائر من خلال تنظيمه مظاهرات غابت لسنوات قبلها عن شارع الجزائر بالتعاون مع رفيقة الكفاح جميلة بوحيرد (أطال الله في عمرها)، وعبد الحميد مهري وقادة أحزاب يسارية وإسلامية وقومية، او قوافل الامداد لكسر الحصار على غزة بالتعاون مع جمعية العلماء المسلمين وفي المقدمة رئيس هيئة الإغاثة الفلسطينية، عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي كريم رزقي وأبرزها ارسال السفينة الأكبر حمولة في اسطول الحرية لكسر الحصار الذي انطلق من الساحل التركي في حزيران/ يونيو 2010...
كان العراق أيضاً حاضراً دائماً في جدول اعمال المجاهد الجزائري الكبير، وكان ككل الجزائريين والعرب واحرار العالم رافضاً للحصار على بلاد الرافدين، ومقاوماً للحرب الأميركية عليها، نصيراً لمقاومة العراقيين ضد الاحتلال، مترئساً أكثر من وفد تضامني جزائري توجه الى بغداد لكسر الحصار.
وكما كان منشغلاً بمحنة العراق، كان مشغولاً بمواجهة الحرب الكونية على سورية، مشاركاً في أول منتدى عربي دولي لمناهضة العدوان على سورية ولدعم الحوار والإصلاح، عقدناه في بيروت في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2011، ثم في زيارة الى دمشق للقاء القادة السوريين وعلى رأسهم الرئيس بشار الأسد في عداد وفد من الشخصيات العربية كانت مشاركة في المؤتمر القومي العربي في أواخر حزيران (يونيو) 2018، وحين أطلقنا دعوة لمواجهة "قانون قيصر" في حزيران / يونيو 2019، بادر مع ثلة من اخوانه في الجزائر الى تشكيل لجنة شعبية جزائرية لرفع الحصار على سورية سعت الى ارسال قافلة تموينية رمزية للشعب السوري الذي وقف دائماً الى جانب الثورة الجزائرية..
في ليبيا ، التي طالما حرص عليها الراحل الكبير، لم يكن موقفه مختلفاً لا سيّما بعد غزو الناتو الذي جاء "ملبياً" دعوة جامعة الدول العربية في ربيع 2011، فقد دعا بلاده الى رفض هذا الغزو محذراً من مخاطره ليس على ليبيا وحدها، بل على عموم بلدان المغرب العربي..
كان المشهد اليمني، بما فيه العدوان المتواصل منذ حوالي الست سنوات، حاضراً في كل كلمة يقدمها سي لخضر في أي محفل جزائري او عربي او في أي اطلالة اعلامية... داعياً الى وقف الحرب الاجرامية على الشعب العظيم ومشدداً على المصالحة الوطنية بين أبناء اليمن ، لإعادة الاستقرار والسلام والوحدة الى قطر كان يوماً مهداً للعرب جميعاً...
أما " مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني" ، فقد كانت في رأس مهام المجاهد الجزائري الكبير الذي كان لا يخفي إدانته لكل حاكم مهرول نحو التطبيع الذي رأى فيه تنكراً بشعاً للحق الفلسطيني والعربي وتخاذلاً مذلاً من قبل بعض الحكام العرب، فأسس مع عدد من احرار الجزائر، من قوى وشخصيات، " الجبهة الشعبية الجزائرية لمناهضة التطبيع " ليتم اختياره رئيس شرف للمرصد المغاربي لمناهضة التطبيع الذي هو اطار يجمع بين المراصد الموريتانية والمغربية والتونسية والليبية والجزائرية لمناهضة التطبيع، مردداً في جلساته " انه اذا كانت غاية المشروع الاستعماري الصهيوني من إقامة الكيان الغاصب على أرض فلسطين هي فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، فها نحن عبر مناهضة التطبيع ودعم المقاومة نسهم في التأكيد على وحدة الوطن الكبير من المحيط الى الخليج..."
كان تعلق سي لخضر بلبنان، شبيهاً بتعلق العديد من أبناء الأمة، حتى انه بعد خروجه من سجنه الأخير في مطلع هذا العام قال لي عبر الهاتف:" أول بلد قررت زيارته بعد خروجي من السجن سيكون لبنان الذي مارست عروبتي وانسانيتي من خلال المنتديات والمؤتمرات والاجتماعات التي انعقدت في ربوعه، وأكدت من خلالها على تمسكي بالمقاومة خياراً ارتضيته لنفسي في الجزائر في سن الشباب، وسأبقى حريصاً عليه في حياتي حتى الرمق الأخير".
ولكن مجيء الجائحة اللعينة في فبراير / شباط الماضي حرم بورقعه من المجئ الى لبنان، الذي كرًمه في اكثر من مناسبة، كما حرمنا منه، ومن روحه المضيئة كفاحاً وصلابة وخلق حسناً وحباً للوطن والانسان....
* المصدر: جريدة الشروق الجزائرية
تعليقات: