أم سعيد حيث كانت تخبز خلال الحرب
ترفع زينب فنجان القهوة المقلوب على الصينية المستديرة.
تتأمل الخطوط البنية داخل الفنجان وتقول لضيفتها: «تبدين مرتبكة... هناك أمر يشغل بالك». تسأل الضيفة: «كيف تعرفين هذا من الفنجان؟». تبتسم زينب وتشرح: «لأن الخطوط ليست سهلة التفسير... لا إشارات واضحة. لكن لحظة، يبدو لي أنك عشتِ مشكلة كدّرت حياتك، انظري هذه البقعة السوداء هنا، هذا زعل».
بعد اكتشاف «الزعل» صار بإمكان زينب فك بقية طلاسم الفنجان، وصارت «الصبحية» على شرفة البيت المطلّ على سهل الخيام أجمل... واستعادة أيام الحرب التي قضتها زينب مع والديها وشقيقتيها في البلدة ممكنة.
لكن من قال إنها لم تكن ممكنة منذ البداية؟
فعائلة أم سعيد قشّرها، التي صارت أشهر من نار على علم في الخيام، لا تستعيد الحرب بحسرة وألم. الضحكة لا تفارق الوجوه، والحديث عن الطرائف التي واجهتهم يفوق بكثير الحديث عن المعاناة. معاناة «تورّطوا» فيها لأنهم فوّتوا على أنفسهم فرصة النزوح، معتقدين أن الحرب لن تطول أكثر، «بقينا نقول لن تطول إلى أن سجنّا هنا فعلاً».
قبل الوصول إلى أم سعيد، كان معظم من سألناهم من أهل الخيام يدلّوننا على منزلها الكائن في آخر حيّ العين. تقول سيدة: منزلها بعد شارعين، لكن البيت يبدو من هنا، فوقه خزّان أحمر. ويرشد آخر: البيت الذي لم ينجز بناء طابقه الثاني بعد، علماً بأن الكثير من البيوت في الخيام تشهد إعادة إعمار، ولا يمكن شخصاً غريباً عن القرية أن يلتفت إلى أن طابقاً ثانياً لا يزال غير مسكون، فضلاً عن أن الخزان الأحمر يزيّن سطوح معظم البيوت في البلدة.
رائحة الكبة بالصينية تنبعث من الداخل. تخرج أم سعيد ضاحكة إلى الشرفة وتبدأ سرد حكاية الصمود فتروي بإيجاز سريع ما تعتقده مهمّاً عن الحرب ثم تصمت. يحتاج الأمر إلى طرح الكثير من الأسئلة قبل أن نستطيع نسج الحكاية بتفاصيلها التي تساعدها في سردها ابنتاها ريما وزينب.
عندما وقعت عملية الأسر «هيّصنا وقلنا أكيد بيردّوا الأسرى» ولم يتوقعن قط أن تشنّ الحرب. سريعاً وجدت العائلة نفسها أسيرة البلدة، فصار أفرادها يتنقلون بين البيت الذي يقيمون فيه اليوم، وبيت الجد الذي يودي إلى مغارة قديمة تصلح لأن تكون ملجأً احتضن 15 شخصاً صمدوا في البلدة.
تقول أم سعيد إن الوضع بقي مقبولاً إلى ما بعد عشرة أيام من بدء الحرب ثم «تأزّمت المسألة». والأزمة مرتبطة بحجم القصف فقط، لا بأي شيء آخر له علاقة بآلية الصمود. فقد مارست العائلة يومياتها بشكل شبه عادي: تنظيف البيت، غسيل، خبز، طبخ، ريّ المزروعات... «لم نحرم أنفسنا شيئاً» تقول ريما ضاحكة وهي تتذكر كيف أكلوا خلال 15 يوماً من الحرب 200 بيضة بلدية «أجرت شقيقتي تحاليل طبية بعد الحرب وتبيّن أن معها الكثير من الكالسيوم».
تزرع أم سعيد كلّ ما تحتاج إليه من خضار، وفي بيتها مؤونة تكفيها شهوراً. هي معتادةٌ ذلك، لأنها لم تغادر القرية خلال سنوات الاحتلال الطويلة. حتى عرانيس الذرة لم يحرموا أنفسهم منها، «شويناها تحت الشجرة وأكلناها تحت القصف». وعندما رغبوا في «طبخة» الملوخية لم يترددوا في ذبح دجاجات جارهم «ذبحنا ست دجاجات، كل مرة كنا نطبخ شيئاً، لكن بقية الدجاجات ماتت لاحقاً بسب القصف، وقال لنا جارنا بعد عودته: ليتكم أكلتموها كلّها».
لا تعترف أم سعيد بأنها كانت تعدّ طعاماً للمقاومين الذين صمدوا في البلدة. وتحرص زينب وريما على عدم الإشارة إلى أي أمر يمت بصلة إلى المقاومة. الشيء الوحيد الذي «تتورّط» به أم سعيد وهي تدلّنا إلى المكان الذي كانت تخبز فيه قولها: «قبل استشهاد أحمد الشيخ علي سمعت أنه كان يفكّر بزيارتنا بعد أن وصل إليه شيء من الخبز الذي كنت أعددته» تقول بحزن متذكرة رفيقه الشهيد فؤاد عواضة: «كانا من خيرة الشباب».
لكن زينب تعود فتقول إنهم تلقوا نصائح من بعض شباب القرية لم تكترث لها غالباً. «قالوا لنا بأن لا نضيء شيئاً ليلاً، لكننا بقينا نضيء الشمعة في المغارة، لأننا كنا متأكدين من أن ضوءها لا يمكن أن يصل إلى الخارج. وفي النهار كنا نخرج لسحب الماء من البئر وندير الموتور».
تعلمت زينب الكثير من التدابير الأمنية: أن لا أسير عندما تكون طائرة الـ «أم ك» في الجو، والأفضل إذا كنت في الخارج أن أختبئ تحت شجرة إلى أن تختفي، وشجرة الزيتون تحمي أكثر من غيرها. وكنت أخاف من الإنسان الآلي الذي يستطيع أن يكتشف إن كانت البيوت مسكونة أو لا». تشرح عن هذا الإنسان: «هو جهاز يتنقل فوق سطوح البيوت ويرصد الأصوات. شكله مثل جرن الغسالة وله ضوء من الأمام. كنّا عندما نشعر بوجوده نصمت لأكثر من نصف ساعة
أحياناً».
وعندما يبتعد الخطر تعود العائلة لممارسة الحياة، وهنا يبدأون بتعداد المرات التي نجوا فيها من الموت. لكلّ منهم قصصه التي يرويها، أبرزها قصة أم سعيد عندما كانت متجهة إلى «أرضية» (طابق سفلي) المنزل لكي تخبز عندما سقطت قذيفة في الحقل المجاور، قصّت بعض شظاياها شجرة الزيتون ووصل بعضها الآخر إلى الدرج المؤدي إلى الأرضية، مباشرة فوق رأسها. أما زينب التي كانت تروي المزروعات مع واحدة من قريباتها فقد سقطت القذيفة أمامها مباشرة «نمنا أرضاً واستمرّ القصف وقتاً طويلاً لم نتحرّك من مكاننا».
رغم ذلك لم يغادروا القرية «ليس شطارة، لكن هذا ما حصل. في منتصف الحرب أرسل لنا ابني (دركي) سيارة لتنقلنا إلى مرجعيون، لكني كنت أخبز، قلت لهم أن ينتظروني نصف ساعة لأنتهي من الخبز لأنني «استحرمت» أن أرمي العجين». تقول أم سعيد ضاحكة وتتذكر كيف ضحك أصدقاء ابنها «نيّالك ما أروق بالك» قالوا لها وهم يحملون معهم بعض الأرغفة الساخنة.
والحديث عن صمود الخيام لا يمكنه أن يكتمل من دون ذكر قصة استشهاد المواطن خليل حسّان: «وقعت عليه شرفة المنزل المقابل لمنزله. رفضت زوجته أن يأخذه الصليب الأحمر إلى المستشفى مصرّة على دفنه في مقبرة البلدة وإجراء جنازة له، لكن الوضع لم يكن يسمح للشباب بذلك فدُفن في حديقة منزله».
الأمر الوحيد الذي كان يريحهم خلال الحرب، إضافة إلى الصلاة والدعاء من أجل انتصار المقاومة، شعورهم بسيطرة الشباب على الوضع وخطابات السيّد حسن نصر الله. «كنا نسمع الأخبار عبر الراديو بعد انقطاع الكهرباء واستمعنا إلى السيد يعلن الانتصار في اليوم الأخير». انتصار كانوا واثقين من حصوله وهم الذين شاهدوا بأم العين الدبابات الإسرائيلية تحترق في سهل الخيام «فرحنا كثيراً ذلك اليوم وتأكدنا من أن الإسرائيليين لن يستطيعوا الدخول مجدداً إلى لبنان».
تعليقات: