الأسير المحرر من معتقل الخيام حسن سعيّد
عدشيت القصير ـ
هو ذا معتقل آخر بمدى أوسع وهواء وأشجار وبشر يحاصر شيخ الأسرى المحررين من معتقل الخيام حسن سعيّد (80 عاماً) في قريته الصغيرة عدشيت القصير. فبالرغم من أنه لا يحيا سوى على هذه الأمتار القليلة، بين أرضه وزرعه وترابه إلا أنها لا تكفيه وحدها. إنه مثلها وحيد هنا ومعزول كأنه يكمل محكوميته في معتقل الخيام التي قطعها قضاء المقاومة وقدر التحرير في مثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات. يعلم أنه ليس وحده في هذه الجزيرة المعزولة على كتف وادي الحجير والمنسية في دفاتر القرى وخرائط التنمية والتواصل كمعظم القرى الجنوبية المحررة. عليه إذا مرض والمرض كبير، أن يكتم آلامه ريثما يجد سيارة أو ابن حلال يوصله إلى مستوصف البلدة البعيدة وإذا احتاج إلى شيء ما أن يتجاهله ريثما تسنح الفرصة للحصول عليه، لكن أولاده «يملأون الفراغ وأكثر إن زاروه كل أسبوع وتنادوا إلى شيخوخته كل من واديه» يتمنّى أبو محمد.
«الانعزال في أرضي قاتل أكثر من 21 شهراً في معتقل الخيام» يقول العاتب على كل شيء: على جيرانه السابقين الفنلنديين حافظي السلام الذين وشوا به لدى الإسرائيليين وعملائهم بأنه يفتح بيته وقلبه ومائدته للمقاومين ويضيء الليل أمامهم في طريقهم إلى الشهادة أو الحرية أو الأسر وهو لا يعرف لهم اسماً أو سيرة أو وينسى وجوههم إذا ما أفلوا. العملاء ها هم يسرحون أمامه رواحاً ومجيئاً ويتغلغلون بين الناس وفي الهواء والماء كأنهم كانوا ملائكة الاحتلال، علماً بأن أقرب أقربيه جرّب حظّه في العمالة أيضاً. وقبل أي شيء يعتب أبو محمد على الموت الذي رحمه في المعتقل مرات عدة لكنه لم يرحم أم أولاده الأسيرة عبدة مالكاني (67 عاماً) التي اعتقلها العملاء من بيتها بعد ساعات من اقتياد زوجها في السيارة ذاتها إلى مستوطنة مسكاف عام، أما هي، فمباشرة إلى الخيام لاشتراكها في دعم المقاومين. راكم التعذيب النفسي والجسدي المرض على جسد عبدة التي حرّرها التحرير وأطلقها مباشرة إلى المستشفى الذي لم تغادره بعد شهر واحد إلا جثة هامدة. وبعد ثلاث سنوات، عاد الموت ليستدعي ابنه في الأسر الأسير المحرر ياسر حلاوي الذي أخرج معه من زنزانة السنوات الأربع عند التحرير المرض الخبيث الذي استكمل أسره حتى الموت. مرارة ما بعدها مرارة لا تخفيها ضحكاته و«زجلياته»، تسكن القلب التعبان الذي ينتظر دوره ليرحل إلى أحبّائه وينهي عزلته التي كانت قبل ثماني سنوات ضجة تثيرها الحملة العالمية التي أطلقتها لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين في السجون الإسرائيلية لإطلاقه وزوجته من معتقل الخيام. كان نجم الموقع الإلكتروني الذي أنشئ باسمه والاعتصامات والمذكرات إلى الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي. وقد أثار قضيته المسؤولون اللبنانيين، الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك طالب بالإفراج عن ذلك المسن. لكنّ أبا محمد لم يسمع كل تلك الضجة العالمية، لا بل لم يكن على علم بوجود زوجته في المعتقل على بعد زنزانات عدة، إلا بعد عام واحد على اعتقالهما، حينما انتزع ممثل الصليب الأحمر الدولي الإذن من العميل أنطوان لحد للسماح بلقائهما الأول والمفاجئ لكليهما، والذي لم يستمر لأكثر من دقيقتين بعدما أمطرت زوجته العملاء الحاضرين بالشتائم والسباب وعوقبت بجلسات تعذيب حافلة وعزل استمر خمسة أشهر.
■ الاعتقال المستمر
كلّه يهون لدى أبي محمد على ألا يذكر «الدولة التي تقوى فقط على استقبال الأسرى المحررين عند الإفراج عنهم ثم تنساهم في اليوم التالي، منذ أول أسير حرّر إلى آخر دفعة تحرّرت في عام 2004، حتى أولئك المفرج عنهم قريباً من فلسطين المحتلة». جميعهم «يلقون المصير ذاته» برأيه. لأن المقاومين يستحقون العقاب، والأسرى المحررون ثوابهم الشحاذة». ويتساءل متعجباً «أملك ورقة من الصليب الأحمر الدولي تفيد باعتقالي عدا عن عشرات قصاصات ورق الجرائد التي تتحدث عني. وها أنا منبوذ ومنفي من خارطة الوطن، فكيف الحال بأولئك الذين لا يذكر اعتقالهم أحد؟». وهو غير فخور بالأشهر الواحدة والعشرين التي قضاها في معتقل الخيام وهو في السبعين من عمره «فحبّذا لو قضاها في خدمة الشباب كما فعل طيلة 15 عاماً من الاحتلال ويشهد بنفسه اندحاره».
ظهر اليوم تتكسّر قضبان معتقل الخيام ويطلق إلى الحرية 144 طائراً، منهم من دشّن الزنازين في عام 1985. على الأرض تبقى الذكرى أو محاولة النسيان لثلاثة آلاف معتقل لبناني دخلوا الخيام بينهم أربعمئة امرأة ومسنّون وأطفال تناوبوا على الإقامة الجبرية في البنايات الخمس حيث سجن واحد للنساء وأربعة للرجال و67 زنزانة جماعية و20 فردية أقامت مكان اسطبلات الخيول. أما في السماء، فترفرف أرواح 17 معتقلاً استشهدوا تحت التعذيب، ثمانية منهم على العمود الشهير وهم معلّقون من أيديهم ومكبّلون ورؤوسهم مغطاة وأقدامهم تلامس الأرض، منهم الشهداء هيثم دباجة وعبد الله غملوش وزكريا نظر وعلي حمزة ولبيب أبو غيدا وحسين علي محمود والمسنّ أحمد ترمس وأسعد بزي، بلال السلمان وإبراهيم أبو عزة اللذان استُشهدا في انتفاضة المعتقلين في 25 تشرين الثاني في عام 1989، وشوقي خنافر وابراهيم فرحات. أمّا الشهيدان يوسف سعد وصالح غرغر، فقد توفّيا في مراكز التحقيق قبل أن يصلا إلى المعتقل.
تعليقات: