يجري التداول، بقوّة، في خيار «تشحيل» المتعاقدين في مؤسسات القطاع العام. حتى الآن لا قرار رسمياً بذلك، إلّا أنّ المعنيين في الإدارة العامة لا يستبعدون اعتماده من باب تخفيف الأكلاف على الدولة المفلسة. ولكن، كالعادة، الخشية من أن يذهب من لا «ظهر» له كبش محرقة. فأيّ نوع من المتعاقدين سيتم الاستغناء عنهم في حال اعتُمد هذا الخيار؟ وماذا عن الآلاف ممن عُيّنوا قبيل انتخابات عام 2018 كوسيلة لشراء الولاءات السياسية؟ وهل يكون البقاء للمتعاقد الأقوى؟
أثارت المعلومات حول تسريح عدد من المتعاقدين في المؤسّسات العسكرية، قبل أسابيع، مخاوف كثيرين من المتعاقدين من وجود توجّه إلى «تعميم» هذا الإجراء. ورغم أن لا قرار رسمياً في هذا الشأن، حتى الآن، يقضّ هذا الهاجس مضاجع كثيرين من الموظفين مع تزايد المطالب بـ«ركلجة» الإنفاق العام.
إلّا أنّ فتح ملف المتعاقدين لا يُمكن أن ينفصل عن ملف التوظيفات السياسية المخالفة للقانون الذي أُثير قبل أكثر من عام. فأيّ نوع من المتعاقدين سيتم الاستغناء عنهم في حال قرّ الرأي على اعتماد هذا الخيار؟ وماذا عن الآلاف من هؤلاء ممن عُيّنوا قبيل انتخابات عام 2018 كوسيلة لشراء الولاءات السياسية؟
هناك نوعان من المتعاقدين: من عُيّنوا وفق الأصول سواء عبر الخضوع لامتحانات مجلس الخدمة المدنية أو عبر قوانين خاصّة رعت دراسة الحاجات، والمتعاقدون «غير الشرعيين». وتشمل هذه الفئة الأخيرة من «زُرعوا» في الإدارة العامة قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة، والذين قدرت لجنة المال والموازنة عددهم في أيار 2019 بـ5013 موظفاً، وأوصت بمنع كلّ حالات التوظيف قبل إنجاز المسح الشامل وإعادة هيكلة الإدارة والمرافق العامة وإنجاز التوصيف الوظيفي «إلّا في حال ملء وظيفة ملحوظة في الملاك وشغرت لأيّ سبب كان».
رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان أوضح لـ «الأخبار» أن ما تطلبه اللجنة ليس تسريح المتعاقدين، «بل معالجة التوظيفات غير الشرعية التي حصلت»، لافتاً إلى أن الملفات حُوّلت إلى ديوان المحاسبة قبل نحو سنة ونصف السنة، «ولم تصدر حتى الآن أية قرارات في هذا الملف، باستثناء قرار أو قرارين». وهو ما أكّده رئيس ديوان المحاسبة القاضي محمد بدران لـ«الأخبار» لجهة «صدور قرار يتيم في هذا الملف»، عازياً التأخير إلى «دقّة هذه الملفات التي تتطلّب إجراءات إدارية دقيقة».
مصادر متابعة استبعدت احتمال أيّ معالجة جديّة لهذا الملف لأن ذلك «يقضي بمحاسبة الكثير من الوزراء»، وفق قانون المحاسبة العمومية (تنصّ المادة 112 من القانون على أن «الوزير مسؤول شخصيّاً عن كلّ نفقة يعقدها متجاوزاً الاعتمادات المفتوحة لوزارته مع علمه بهذا التجاوز، وكذلك عن كل تدبير يؤدّي إلى زيادة النفقات التي تُصرف من الاعتمادات المذكورة إذا كان هذا التدبير غير ناتج عن أحكام تشريعية سابقة»). وأبدت المصادر خشيتها من أن ينتهي الأمر بالتضحية بالمتعاقدين ممن لا يملكون «ظهراً» يحميهم.
ولكن، هل خيار التسريح هو الخيار الأوحد لتخفيف كلفة التوظيفات في القطاع العام؟
تؤكّد رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر أنّ الرواتب والأجور والمُلحقات التي تُنفَق على موظفي الإدارة العامة، «قبل التعاقد المخالف للقوانين وبرواتب خيالية»، كانت تبلغ نحو 8% فقط من موازنة العاملين في القطاع العام. وأشارت إلى أنّ الإدارة العامة تعاني من شغور حادّ في وظائفها من مختلف الفئات بنسبة تراوح بين 60% و85%، لافتة إلى أنّ «التعاقد غير القانوني الذي أدخل إلى الإدارة العامة أكثر من خمسة آلاف متعاقد، بعد منع التوظيف بموجب القانون 46/2017، لا يحلّ مُشكلة الشغور لأنه لم يستند إلى أيّ معيار قانوني أو موضوعي».
ويُقدّر عدد موظّفي الإدارة العامة بنحو 11 ألفاً فيما يبلغ عدد المتعاقدين نحو ثلاثة آلاف وعدد الأجراء نحو 1500. أما «الأعداد التي يتكلّمون عنها فهي حتماً في مكان آخر، أي في أعداد المعلمين وفي السلك العسكري والأمني وكلفته الباهظة». وتشدّد نصر على ضرورة «العمل على إصلاح القطاع العام بدل استسهال أبلسته. ليس المطلوب قطع أرزاق المتعاقدين، إنّما الحرص على ألّا تكون هذه التوظيفات على حساب الدولة لما لها من أكلاف باهظة على ماليتها». علماً أن غالبية المتعاقدين ممن يتقاضون رواتب خيالية يعملون في «الوزارات الدسمة»، كالاتّصالات مثلاً. ففي هذه الوزارة، يتقاضى متعاقدون مع هيئة «أوجيرو» رواتب تصل إلى ثمانية آلاف دولار. والمفارقة أن موظفي ملاك الوزارة ممن يدرّبون هؤلاء لا تتجاوز رواتبهم ثلاثة ملايين ليرة. علماً أن بعض المتعاقدين تتجاوز رواتبهم 15 ألف دولار شهرياً!
قرار قضائيّ يتيم صدر في ملف التوظيف غير الشرعي لخمسة آلاف متعاقد
أمّا في القطاع التربوي، فيؤكّد مصدر في التفتيش التربوي لـ «الأخبار» أنّ ظاهرة التعاقد في التعليم الرسمي «غير قائمة، منذ سنوات، على أسس إدارية واضحة، ومن دون تقدير دقيق للحاجات الفعليّة أو تقييم مسبَق لكفاءة المتعاقد بموجب مباراة رسمية يجريها جهاز رقابي». ولفت إلى أنه «قانوناً، وقبل اللجوء إلى التعاقد، يُفترض توزيع أفراد الهيئة التعليمية بشكل متوازن يلبّي الحاجات، فلا نجد فائضاً في مدرسة وحاجة في مدرسة مجاورة، إضافة إلى معالجة الهدر في الأعمال غير التدريسية كون ذلك يستولد حاجة للتعاقد». ويشير المصدر إلى أن وزراء التربية المتعاقبين منذ عام 2015، «تحايلوا على قانون منع التعاقد والتوظيف، عبر اللجوء إلى بدعة «المستعان بهم» الذين وصل عددهم في العام الدراسي 2015-2016 إلى 1899 مدرّساً». وتغطّى نفقات هذا النوع من التعاقد من أموال جهات دولية مانحة ومن صناديق المدارس أو صناديق مجالس الأهل فيها أو من البلديات، «وهذا ما يُعتبر إنفاقاً لأموال عامة خلافاً للقانون ما يستوجب مساءلة المسؤولين عنه من أموالهم الخاصّة سنداً إلى المادة 112من قانون المحاسبة العمومية».
وكانت المفتشية العامة التربويّة أصدرت قبل عامين التوصية رقم 21/2018 التي تقضي بعدم الموافقة على أي تعاقد «إلّا بعد استكمال النصاب القانوني (...) مع إعطاء الأولوية للمتعاقدين القدامى الذين أثبتوا جدارة وكفاءة في مهامهم التعليمية تحت طائلة اعتبار مدير المدرسة أو الثانوية أو الموظّف المسؤول عن دراسة الحاجة إلى التعاقد ومسؤول المنطقة التربوية ومديرية التعليم الثانوي مسؤولين بأموالهم الخاصة عن أيّ هدر في الأنصبة القانونية (...)».
تعليقات: