الورشة في بنت جبيل (علي علوش)
بنت جبيل :
تحل الذكرى الثامنة للتحرير هذا العام على غير ما اعتاد عليه الجنوبي خلال الأعوام الستة الاولى من هذا «الانجاز التاريخي»، يطل العيد والجنوبي محاط بكم كبير من المشاكل التي تحاصره منذ انتهاء عدوان تموز 2006 وما سبقه. لغياب الدولة بمؤسساتها الرسمية المختلفة حصتها الكبرى، خاصة في موضوع التعويضات المختلفة وامتدادها على جميع القطاعات الحياتية والاقتصادية. الذكرى المعنوية للانتصار نفسه غابت بعدما شطبتها الحكومة من جدول الأعياد الرسمية.
لا يحتاج ابن الجنوب، وبالتحديد أهالي القرى التي أحيطت بما عرف «بالشريط الحدودي» إلى الكثير لنبش ذكرياتهم الاليمة من زمن احتلالات امتدت على 22 عاماً، وقبلها أعوام أخرى طويلة من الاعتداءات التي نالت من كل قرية وبيت فيها. ترابض ذكريات تلك الأيام السوداء عند باب الذاكرة، وتسكن هاجساً من يوميات المواطن الجنوبي على أمل ألا يدور دولاب العمر مرة جديدة على ألم جديد.
هنا في بيت ياحون، على بوابة العبور بين القرى المحررة والمحتلة حينذاك، يطيل علي ناجي ابن البلدة، النظر نحو أطلال المعبر الذي قضى امام بوابته ساعات وليالي ليقطع أمتارا قليلة كانت تفصله عن منزله قبل ان يجبر على تركه آخر أيام الاحتلال. في كل مرة كان علي يمر أمام ما تبقى من غرفة التفتيش على المعبر ينقبض قلبه. تغيرت الصورة والشعارات الموجودة، ولكن الإحساس يأبى إلا الاسترجاع: «فـ 22 عاما من القهر والعذاب لا تمحى بسنوات قليلة وقد لا تمحى العمر كله». فالساعات التي قضاها الأهالي هناك بانتظار فتح البوابة «لا تقاس بدقائقها وإنما بعذاباتها ومرارتها التي كانت تمتد لأيام»، يقول. ولكن ناجي وغيره من القلائل الذين حافظوا على زيارة منازلهم لو في فترات متباعدة لم يخطر بباله يوماً ان يتوقف عن هذه الزيارة رغم مشقتها.
يعتب ناجي والكثير غيره على الدولة: «ليس على الحكومة الحالية فقط، نحن نعتب أيضاً على من نشعر انه منا وكما يقال عندنا «العتب على القدر المحبة»، وكذلك نتذكر حكومات سابقة وعدتنا بالكثير ولم نحصل إلا على جوز فارغ».
من جهته يرى د. مصطفى بزي بأنه كان على الدولة أن تحمل عدتها بعد التحرير وتتجه جنوباً، «فهذه القرى التي تأخر الإنماء عنها لعقود ما تزال تعيش دون بنية تحتية فضلاً عن غياب أي من مقومات الصمود بحدها الأدنى، ولولا الارتباط الروحي والعاطفي للجنوبي بأرضه لكانت تحولت هذه الأرض إلى صحراء».
على الطرقات صعودا نحو القرى المحررة في قبل ثماني سنوات، تكثر اللوحات الحديدية عن مشاريع أنجزت، عبثا تبحث عن أي مشروع رسمي باستثناء بعض المشاريع القديمة لمجلس الجنوب وما خلا ذلك، يعود لدول ومؤسسات من مشارق الأرض ومغاربها، من وكالة التنمية الأميركية الى دولة النيبال مروراً بالاوروبي والافريقي والعربي والاسلامي وبالبنك الدولي وغيرها. فالطرقات إيرانية ودولية، والمراكز الصحية والثقافية أوروبية، والاعمار الفعلي الوحيد هو قطري بعد ان تعدى مجموع ما دفعته هذه الدولة وحدها حتى الآن في القرى الأربع التي تكفلت إعادة إعمارها مجموع ما دفعته الدولة اللبنانية من الهبات في جميع القرى المتضررة.
يعتبر رئيس بلدية عيترون المهندس سليم مراد ان الفجوة بين هذه المنطقة والدولة تزداد سنوياً. بالنسبة له «سقطت الدولة في امتحاني التحرير والنصر العام 2006 وفشلت في المرتين في إعادة بناء جسور التواصل حتى الآن».
يكمل نائب رئيس اتحاد بلديات بنت جبيل على «هدية الدولة لنا لتعويض الإنماء الفائت كان في خفض ميزانية البلديات 40 في المئة، فضلا عن حجز المبالغ المرصودة وكل ما شهدناه من انماء كان بفضل جمعيات غير حكومية محلية وأجنبية».
يشكل موضوع إعادة الإعمار ابرز مشاكل أهالي هذه القرى في السنة الثامنة للتحرير. فرغم قرب انتهاء السنة الثانية من العدوان لم تتعد دفعات إعادة الإعمار الدفعة الأولى بعد، كما لم تتجاوز دفعات الترميم مبلغ 12 مليون ليرة ومن استطاع ان ينهي منزله من جيبه انتقل إليه أما الغالبية العظمى من الأهالي فما يزالون مهجرين في ضيعهم.
اقتصادياً لا يغرد الجنوب خارج سرب باقي المناطق اللبنانية. فالجمود الاقتصادي وارتفاع الاسعار يلقي بثقله على الحياة التجارية في هذه المنطقة، كما يشير طارق بزي الرئيس السابق لنقابة تجار بنت جبيل، «بل حتى انه يرى ان اسواق المنطقة، لا سيما سوق بنت جبيل يفقد شيئاً فشيئاً دوره التاريخي كرابط تجاري بين اسواق البلدات نتيجة الإهمال الرسمي للدولة التي ركزت مشاريعها التنموية من بنية تحتية وغيرها في مناطق وغضت طرفها عن مناطق هي اولى بهذه التنمية بعد عقود من الاحتلال متناسية وعودها الكثيرة بهذا الخصوص».
وكذلك يمكن القياس في باقي الشؤون الاقتصادية الاخرى وباستثناء زراعة الدخان، التي تضخ حوالى 18 مليار ليرة من الاموال سنويا بين ايدي المزارعين، ما تزال باقي الزراعات عبارة عن مشاريع صغيرة للانتاج اليومي فقط دون ان تتحول إلى مشاريع كبيرة منتجة بسبب مشاكل التصريف والري.
وكان مجلس الوزراء في جلسته المعقودة في 23 أيار من العام ألفين قد اقر البرنامج الإنمائي للمناطق المحررة بهدف رفع مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان المعنيين، إضافة إلى رفع عدد المقيمين فيها إلى الضعف خلال فترة خمس سنوات. توزع المبلغ المقرر للخطة والبالغ 1200 مليون دولار على مختلف القطاعات الاقتصادية والإنمائية والاجتماعية إضافة إلى المساعدات والتعويضات، وإذ اعتبر الأهالي يومها أن هذا البرنامج طموح جداً لدرجة انه يصعب تنفيذه في بلد تتقلب فيه السياسات كل خمس ساعات فكيف بخمس سنوات، أمل البعض يومها أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من تنفيذ نصفه. وقعت خيبة الأمل حين اقتصر التنفيذ على مشاريع متفرقة هنا وهناك لم تأت بالنتيجة الإنمائية المتوخاة منها. وحتى هدية التحرير التي اقرها مجلس النواب في جلسته الاستثنائية في بنت جبيل والتي تناقصت حتى 300 مليار ليرة لبنانية، فإنها لم تدفع بعد ولا يعرف أي شيء عن مصيرها.
على مدخل مرحلة انتخاب رئيس جديد للجمهورية متزامناً مع عيد التحرير يأمل الجنوبي بفتح صفحة جديدة من التعامل مع هذه المنطقة، وحبذا لو كان هذا التعاون مماثلاً للعلاقة التي ربطت علاقة دولة قطر بالجنوب.
تعليقات: