عائلة عبد العال في حلتا
العرقوب ـ
الثالثة فجر الرابع والعشرين من شهر أيار عام 2000، خرج آخر جندي للاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان. أعقب ذلك هدوء خيّم على مختلف أرجاء الجنوب، وعلى كل المواقع التي أخلاها الاحتلال، وكان آخرها موقع بسطرة في السابع والعشرين من الشهر نفسه. وسبق ذلك قيام آخر جنديين منسحبين بإغلاق آخر بوابات العبور المعروفة باسم «بوابة فاطمة»، حيث تدفّق الآلاف من عناصر «جيش لبنان الجنوبي» إلى إسرائيل، فيما زاد عدد المستسلمين على 1500 عنصر.
تاريخ الخامس والعشرين من أيار لا يغيب عن ذاكرة أهالي حلتا الذين قاوموا وصمدوا طوال ربع قرن، وكان لهم دور في تحرير موقع بسطرة في السابع والعشرين من أيار، وهم اليوم يسجّلون عتباً على الدولة والحكومات المتعاقبة التي لم تستشعر يوماً معاناة الأهالي في الأطراف، وخصوصاً عند الزاوية الجنوبية الشرقية من حدود الوطن.
الفقر واقع مرير
المكتوب يقرأ من عنوانه، وشوارع حلتا وأزقتها تدل على حال أهلها الذين ارتضوا التموضع عند زاوية كانت الأكثر تفجّراً في تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، وهم اليوم يسجّلون عتباً على حكوماتهم التي أغفلت المنطقة منذ الاستقلال حتى اليوم. تقول أم هيثم: «العثرة على الفقير، ونحنا عايشين من قلّة الموت. الغلاء داهمنا ولم يستثن أحداً». أهالي حلتا يعملون في الزراعة وتربية المواشي، ولا يعرفون طعم الوظيفة. وهناك في القرية نحو خمسة آلاف رأس ماعز ومجموعة أبقار تنتج كمية من الحليب تصرّف محليّاً. هذا الواقع ينسحب على المدرسة الرسمية التي تضم نحو 60 تلميذاً يمكن تصنيفهم درجة ثالثة لغياب اهتمام الأهل ورقابتهم وهيمنة النمط الزراعي.
من ذكريات التحرير
إلى الجنوب الشرقي، وعلى المرتفعات المطلة لمسافة خمسة كيلومترات من حلتا، كان يقوم موقع بسطرة، آخر المواقع الإسرائيلية التي تحررت بفضل تكاتف جهود المقاومة والأهالي الذين دخلوا الموقع بعد خبر مفاده أن الاحتلال انسحب من هناك تاركاً خلفه مواطناً من بلدة شبعا برفقة قطيعه (أبو قاسم محمد عبد الله زهرة الذي بقي متمسكاً بأرضه في المزارع خلف الشريط). ويقول هيثم عبد العال: «دخول الموقع أتى بعد ساعتين صعوداً من حلتا واجتياز الشريط الشائك عبر بوابة صغيرة. في بسطرة كان كل شيء على حاله، الموقع والدشم والتجهيزات والخنادق والملاجئ. المكان خال من السلاح والجنود. رفع الأهالي العلم اللبناني فوق دشمة مرتفعة. لحظات وانهمر الرصاص من جنود الاحتلال الذين ضربوا طوقاً حول المكان. فك الحصار بعد مفاوضات أجراها زهرة، وانسحب الأهالي إلى قريتهم، وفي اليوم التالي ترك الاحتلال موقع بسطرة ليصبح محرراً».
أبو حسن خف سمعه
لم يترك أبو حسن (85 عاماً) منزله في قرية حلتا طيلة فترة الاحتلال، بقي صامداً وفضّل الموت على النزوح. وقال: «تعذّبنا كثيراً منذ عام 1969، حيث نزحنا بداية إلى منطقة البقاع، وكان وقع التهجير هناك قوياً. عدنا إلى حلتا لنجد المنزل مدمّراً والغلال محروقة. هذا درس علّمنا التمسك بأرضنا وعدم تركها. أعدنا بناء ما هدمه الاحتلال بعيداً عن التعويضات». وتضيف أم حسن (80 عاماً): «منعوا عنّا تصاريح مغادرة البلدة، لأننا تعاطفنا مع المقاومة. عرفنا أنواعاً عدة من المضايقات، واضطررنا إلى إرسال أولادنا إلى بيروت للإقامة فيها خشية إجبارهم على الانخراط في صفوف الميليشيات. التحرير أعاد إلينا حريتنا والتواصل مع باقي المناطق اللبنانية. معاناتنا تكررت في عدوان تموز، حيث بقيت مع زوجي وحيدين في القرية شهراً كاملاً، لأن الجيبة فاضية والموت أفضل من التهجير. كنا نتفقّد المنازل الخالية حين يهدأ القصف، ونطفئ النار المشتعلة في بعض جوانب المنازل. شدة القصف والانفجارات أفقدتنا جزءاً من حاسة السمع». وأضافت: «كنا إلى جانب المقاومين نتقاسم لقمة العيش بما تيسّر من الزاد القليل، وكما حررت المقاومة الجنوب بتضحياتها وأعادت الأهالي إلى قراهم، تبقى مناسبة التحرير عيداً وطنياً، وذكرى الانتصار نعيش لحظاتها في هذا الوقت من كل عام».
رايات وأعلام ولوحات تجسّد العمل المقاوم تتوزع على الطرقات الرئيسة والفرعية، وتلامس أحياناً الخط الأزرق في بعض الأماكن. لكن المناسبة تبقى ناقصة في بعض قرى العرقوب، حيث مساحات واسعة ما زالت محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
تعليقات: