كيف حالك يا هاني؟ هل ارتحت من عناء السفر؟ هل طابت الإقامة في الرياض؟ هل متّعت ناظريك في رياضة قطع الرؤوس في الساحات العامة في مملكة القهر؟ هل حفظتَ فتاوى هيئة كبار العلماء المعادية للمرأة؟ هل أقنعوك هناك بأن المرأة عورة، وبأنه يجب رجمها شرعاً إذا ما شذّت عن تعاليم ابن باز؟ أنت القدوة، يا هاني، مثلما كان قدري قلعجي وبعده آخرون قدوة للرجعيّين والمتزمّتين والمتبرّين من تقدّم عجلة الزمن. مثلك مثل غيرك. بدأتَ يسارياً، وتحولْتَ يمينياً حريرياً ـــ بوشياً. وكلنا يا هاني في نبذ اليسارية سواء: المحافظون الجدد في الغرب، وحرّاس الوهابية في الشرق العربي. أوتذكر واحداً من أوائل اليساريين السابقين، أعني جلال كشك؟ اليساري العتيق هذا بدأ بالكتابة في مجلة الحوادث في الستينيات، وانتهى بوقاً وهابياً في لندن. كان يمعن في احتقار يساريته السابقة إلى درجة أنه كان يفرض على سائقه (في الزيّ الرسمي الأزرق، الممتلئ بالأزرار لرسم حدود التعاطي الطبقي) أن يفتح له باب السيارة بمجرد أن يتوقف المحرّك عن الدوران. كان يتلذّذ بعرض سيارته «الرولز رويز» على أصدقائه من العرب.
أتقرأ ما أكتب يا هاني؟ كلّ ما أكتب هو لك، وللشيخ سعد. أوتلاحظ؟ كل حرف وكل كلمة موجّهة لكما أنتما؟ أترصد ما أكتب؟ ألا أستحق أن أُضمّ إلى فريق قريطم؟ أنا الذي أُسخّر قلمي (وما تبقّى فيّ) من أجل السلالة المعظّمة. أنا الذي سخّرت ماركس وإنجلز وكاوتسكي وأبو ذرّ وكل الإرث اليساري العالمي لخدمتك وخدمة البنك الدولي. أنا الذي أسيل الدمع والحبر غزيراً على رفيق الحريري بصورة يوميّة. أنا لم أتوقف عن البكاء. ولو يا هاني؟ ولو إيماءة أو تحية أو التفاتة؟ وسلالة الحريري المعظمة تمتلك شبكة إعلامية عملاقة، ألا أستحق برنامجاً خاصاً على تلفزيون العائلة الإخباري مثلاً؟ لمَ لا تخصّصون لي برنامجاً أسبوعياً؟ أستطيع أن أقدم برنامجاً بعنوان «الشيخ سعد في قلبي وعقلي»، مثلا. أو «خليك في قلبي، يا شيخ سعد». ألم تروني على شاشة القوات اللبنانية وغيرها من المحطّات؟ أنا الآن أرى نفسي متخصّصاً في مديح حلفائكم وهجاء خصومكم. ثم، هل هناك من تفجّع أكثر مني لموت الحريري؟ هل هناك من ذرف دمعاً أكثر مني أنا؟ أنا بزّيت كل البكّائين المحترفين في فريق قريطم. أنا بكيتُ على رفيق الحريري أكثر مما بكت الخنساء على صخر. ولو يا هاني؟ كل هذا ولا تراني؟ كل هذا وأنا بعيد عن مجلس الشيخ سعد المعظّم الذي من أجله أقلّب الحقائق وأمعن تزويراً في التاريخ المعاصر؟
أنا كنت أريد كتابة «ملحمة» شعرية عن رفيق الحريري لو لم يسبقني إليها يحيى جابر. أنا كنت أريد أن أزعم أن رفيق الحريري كان الساعد الأيمن لوديع حداد، لو لم تسبقني المناضلة ليلى خالد في ذلك. أنا كنت أريد أن أختلق رواية (مضحكة) عن تشكيل رفيق الحريري وفريد مكاري ـــ فريد مكاري يا محسنين ومحسنات ـــ فصيلاً مقاوماً لاحتلال إسرائيل لو لم يسبقني جورج بكاسيني إلى ذلك في كتابه الخيالي عن سنوات الحريري، الذي أغفل عقداً من الولاء والطاعة من رفيق للنظام السوري وأدواته الاستخباراتية في لبنان. أنا كنت أريد أن أكتب سيرة (كاذبة) عن رفيق الحريري بالإنكليزية، لكن نيكولاس بلانفورد ومروان اسكندر سبقاني، والأخير حرص على تضمين كتابه كلاماً ضد الشيوعية لعله لا يزال يظنّ أن أميركا لا تزال مهجوسة بالخطر الشيوعي. أنا كنت أريد أن أدّعي أن رفيق الحريري كان مقاوماً (مع أنه عمل ضد مقاومة إسرائيل ومن أجل التطبيع مع إسرائيل منذ تنصيبه من النظام السوري رئيساً لوزراء لبنان) لكن حسن نصر الله سبقني إلى ذلك. أنا كنت سأعزو إعادة إعمار لبنان السيئة والبشعة والباهظة إلى رفيق الحريري، لكن سبقني جمع من القيادات والصحافيين. أنا كنت أريد أن أختلق روايات عن بطولات للحريري في مواجهة النظام السوري، في الوقت الذي كان يتلقى فيه هو التعليمات من ضباط المخابرات السوريين، لكنهم سبقوني، يا حضرة مستشار الشيخ سعد الإعلامي. كان بودّي أن أنفي أنه أثقل كواهل الشعب بالديون، وأن أنفي أنه ازداد ثراءً في سنوات حكمه على حساب شعب لبنان، لكن الكلّ سبقني إلى ذلك. أنا سأحمّل مسؤولية تراكم الدين إلى الخيم في وسط بيروت. ما رأيك؟ أترى وجهة تفكيري؟ إلى قريطم دُر، دائماً.
وأنا، يا هاني، منسجم معكم دائماً ومن دون تحفّظ. ألم تلاحظ؟ أنا هادنت ومدحت النظام السوري يوم (أو عقد) كنتم تمدحونه وتتسكّعون على عتبات ضباط مخابراته. وما خاصمته، وما اكتشفت شرّ الممانعة، إلا بعد أن قرّرتم أنتم خصام سوريا. أنا كنت أمدح خطب بشار الأسد عندما كنتم أنتم تمدحونها. أنتم ترسمون، وأنا أقتفي آثار نعليْ الشيخ سعد أينما ذهب. يسعدني ذلك. أنا أتفرّس في الرمال لأتأكد: من هنا مرّ الشيخ سعد، وخطواته بائنة هناك. أنصتُ لأسمع وقعَ دنانيره ترنّ على الأرض. هي تزداد في المواسم الانتخابية، مثلما تزداد وعوده (الكاذبة) عندما يستعطي حشوداً من الناس كما فعل أخيراً في الشمال قبل مناسبة 14 آذار. ويجب أن أكون واضحاً: أنا مثل فارس خشان، أدورُ ثم أدورُ ثم أقلبُ لأقف على رأسي كلاعب الجمباز، ويمكن أن أدورُ من جديد: أستطيع أن أعود إلى كتابات مدائح في بشار الأسد، متحدثاً عن «كوّة» يفتحها بشار في جدار العدو بمجرد أن يلقي خطاباً. أنا رهن الإشارة: للمديح وللهجاء. أنتَ تقرّر، يا هاني، وأنا أطيع.
أما أنا. فلا أسأل الكثير. صحيح أن لديك فريقاً إعلامياً، وصحيح أنك تلقّن الشيخ سعد، دام ظله، بسيطَ الكلام، وأنك تشكّل له الحروف. لكنك مشغول، والمسؤوليات الصغيرة والكبيرة تثقل كتفيك. ماذا لو أنا تحوّلت إلى مستشار لمساعد مستشار مساعدك، يا هاني؟ شرف وأي شرف لو ألحقتني في جهاز قريطم. أنا أحلم ليليّاً. أراني أدخل إلى باحة قريطم. أراني ألقي التحية على الجالسين، والكثير منهم متخرّج من مدرسة محسن إبراهيم في التقلب من اليسارية إلى اليمينية، على غرار مدرسة ارفنغ كريستل الأميركية. أراني أجلس مثلما جلس ويجلس رهط من الصحافيين التابعين يومياً. أراني أنتظر لساعات، مثلهم، من دون شكوى أو تذمّر، لعلني أحظى بتحية منه، أو ربما مصافحة. لعل الشيخ سعد يمرّ، ولو عاجلاً، أراني أنحني أمامه أدباً وبخفر. أراني أكاد ألمس الأرض بأنفي من كثرة الانحناء. أحلم بأنه يناديني: «تعال، يا فلان»... لعله عطش. كوب من الماء المثلج ينعشه. آه لو أنه يسمح لي بوضع حبات الثلج بأصابعي في كأسه. آه لو أنه يسمح لي بإطعامه حبات الكرابيج اللذيذة، الواحدة تلو الأخرى، إلا إذا مانع لأن الحلوى هذه حلبيّة المنشأ.
وأنا سأخدم العائلة الحاكمة (هنا وفي الرياض) ما حييت يا هاني. نبذت كل مواقفي السابقة من أجلكم. أنا الآن أنفي وجود اليمين واليسار بالمطلق كي أسهّل عملية تحوّلي الانتهازية (ولكني أعترف فقط بيسار ما يسمى كوميديّاً بـ«الاشتراكية الدولية»، التي تضم إدي أبي اللمع، والتي ما كانت عبر العقود إلا الذراع الخارجية لحزب العمل الإسرائيلي). أنا أنفي حتى ضرورة أن يكون هناك حاجة لعيد العمال. أنا أسعى من أجل إحياء عيد رأس المال، مرة كل شهر. وسيكون العيد مناسبة من أجل أن نمشي في تظاهرة، نحن اليساريين السابقين، وراء محسن إبراهيم ومحمد كشلي، لنتوجه إلى مسلّة بصبوص البشعة قرب السان جورج. نعاهدك، يا هاني، أننا على العهد باقون. أنا لا أقول إننا سنستمر على مبادئنا الحالية في خدمة اليمين وابن باز ويوحنا فم... التنك (وكيف يشكّك البعض بمواهب الأخير مع أن فيلمون وهبة، أو موسيقياً آخر، لم أعد أذكر، وضح لحناً خاصاً بطقوس كنسيّة من صنعه)، بل أقول أكثر من ذلك: أنا أقول ان لا مبادئ لديّ البتة. أنا لا أؤمن بشيء. أوتدري مغزى هذا الكلام؟ هذا يعني أنني أكثر من مطواع. أنا لست يساراً ولا يميناً ولا وسطاً. أنا عجين. أنت تطوّعني كما تشاء ومتى تشاء وكيفما تشاء. تريدني ممانعاً، أكون، وتريدني تطبيعياً أكون أيضاً. وقد عزمت الأمر منذ اغتيال الحريري (وأنا بالمناسبة رأيت بشار الأسد يقود سيارة المتسوبيشي بنفسه يوم اغتيال الحريري، وكان أحمدي نجاد جالساً بقربه، رأيتهما بأم العين، وأنت أدرى بمصداقيتي، ولو شككتَ فاسأل يسارياً سابقاً، مثل وليد جنبلاط، الذي لم يكذب تاللّه لأكثر من 25 سنة فقط)، على هجاء من يجرؤ على توجيه نقد لآل الحريري الكرام. أنا بدأت الخدمة قبل بداية الخدمة، يا هاني.
ثم أنا مستعد أن أُكلّف بنشر الدعوة الحريرية على اتساع الأرض: أن أجول وأن أزعم، كما فعلوا أيام الحاكم بأمر الله، أن الشيخ سعد هو «إله» «يجب أن يُعبد وأن تعنو له الجباه». أراني أقرع الأبواب وأدور في الساحات مبشّراً بظهور الشيخ سعد. لمَ لا؟ ماذا ترى؟ أنا لا حدود لطاعتي. أنا أذهب أبعد من كل هؤلاء الجالسين أمامك على عتبات المربع الأمني في قريطم، الذي ـــ خلافاً للمربع الأمني في الضاحية ـــ يسمح لأجانب بالتجوال لأخذ الصور التذكارية.
وأنا يا هاني. لا أثبت على موقف إلا الطاعة للحريري، بمن فيهم نادر الحريري. أنا أوالي السعودية في المبادرة العربية، وأنتقد النظام السوري في موافقته عليها. أنا أبارك وأجلّ مفاوضة الدحلان مع إسرائيل، وأعارض فكرة التفاوض بين سوريا وإسرائيل. أنا أقدّر الولاء السعودي للإدارة الأميركية، لكني بالمرصاد لأية محاولة تقارب بين النظام السوري وأميركا. أنا مع التطبيع بين كل الأنظمة العربية وإسرائيل، لكني أصرخ معترضاً إذا ما صدرت أصوات مطالبة بالسلام مع إسرائيل في سوريا. أنا أعارض من يتفق مع حزب الله من اليسار على محاربة إسرائيل ومقاومة عدوانها ـــ وأزعم كاذباً أن منطلقي علماني ـــ وأصفّق لطائفية محمد علي الجوزو ومذهبيته فقط لأنها تتوافق مع رؤية قريطم في الصراع المذهبي المحتدم بإرادة سعودية ـــ بن لادنية. أنا لا أمانع في وجود تيار السلفية المنضوي في تيار المستقبل (الذي أبلى بلاءً حسناً في «غزوة الأشرفية») وإن كنت أزعم كاذباً أنني مع التنوير. أنا تنويري على مسلك ابن باز، الذي نفى أن الأرض كروية، وما العيب في ذلك؟
وأنا أتتبع مصير رفيقي السابق «الياس زهرا». هو نتاج أعمالكم، وأعمال جنبلاط، هذا الذي كان مرافقاً لجنبلاط في محجته إلى دمشق أيام الغشاوة والكذب الذي لم يطل لأكثر من 25 سنة. أراه على الشاشة مع فارس سعيد أو أي يميني آخر، فلا أتبين الفرق. وقد حظي بمقعد نيابي هبة منكم. فاز شيوعي سابق بمقعد نيابي نتيجة أصوات السلفية الحريرية في طرابلس. يا للمفارقة. هل يمكن أن أحظى أنا بمقعد آخر، ربما في الإقليم، بأصوات الحريرية الجوزية؟ وما المانع يا هاني؟ أنا سأنشط على الشاشة. أؤيد من تؤيدون، ولو كان فريد حبيب. أولم ترَ حماستي لأمين الجميل في انتخابات المتن، أنا الذي كنت أهجوه يومياً؟
وأنا مثقف يا هاني. وقد قرأتُ كتاباً للمستشرق هنري كوربان وأستشهد به مرة في الأسبوع (لكن إذا كانت سنوات إقامة كوربان في إيران مزعجة لكم، فسأمتنع عن ذكره تماماً). ألا يثير هذا إعجابك؟ وأنا أجيد لغة أجنبية أستطيع أن أسخّرها لإهراق الدموع على رفيق الحريري أمام الرجل الأبيض، الذي تجلّ وأجلّ. أنا أعبده، يا هاني، بعد عبادتي الأولى للشيخ سعد طبعاً. وأنا يا هاني أدافع عن كل من تأمنون جانبه، كائناً من كان، حتى لو كان ليكودياً. أوتراني أبحر في المواقع اليمينية الأميركية لعلّني أعثر على ما يفيد في نقد خصومكم؟ ألاحظ أنني نقلت أخيراً أكذوبة عن نعوم تشومسكي (عن تأييده للخمير الحمر، وهذا لم يحصل أبداً، إذ إنها محض اختلاق لدعاية اليمين الأميركي)، فقط لأنه لا يؤيدكم هنا في لبنان، ولأنه يعترف بحق مقاومة إسرائيل؟ أنا مستعد أن أتّهم كل من يجرؤ على مهاجمة آل الحريري بالعمالة للمحور السوري ـــ الإيراني، حتى لو كان ممن شارك في حرب عصابات ضد النظام السوري، في لبنان (أو في سوريا). سأحوّل حتى حزب العمل الشيوعي (السوري) إلى جهاز للممانعة، بالرغم من التنكيل الذي تعرّض له أعضاء هذا التنظيم من النظام في الشام. أنا أتّهمُ كلّ من ينتقدكم (أو ينتقد النظام السعودي الذي يرعانا جميعاً بحنوّه وعطفه) بالفاشية ـــ الفوضويّة (وكأن العقيدتين تجتمعان (تاريخياً أو نظرياً) وكأن الأخيرة سُبّة بنظر معتنقيها، مع أن كلمة فوضوية ترجمة غير موفقة، الأصحّ أن يُقال لاسلطوية).
أنا مثل بلال خبيز الذي كتب رسالة حب وحنين إلى مدينة تل أبيب في ملحق النهار، واستقى معلومات المقالة من مضمون مطبوعات السياحة الصهيونية. تلميذ محسن إبراهيم (غير) النجيب تحوّل إلى خبير في شؤون الصهيونية، وإن أشار إلى أدولف ايخمان باسم «رودولف»، لعل الأمر اختلط عليه. لكن الأمر لم يختلط عليه عندما أشار إلى الاجتياح الأميركي للعراق بـ«تحرير العراق»، كما أنه زعم أن كل شعب إسرائيل يعترف بالجريمة ضد الشعب الفلسطيني. تلميذ محسن إبراهيم هذا لا علم له بوجود جناح ديني ـــ أصولي في اليهودية في إسرائيل، وبدا كأن مقالته في الحنين إلى تل أبيب اعتمدت على أدبيات الدعاية الصهيونية في أميركا في الخمسينيات. هو تحدث عن «تنوع» في المدينة، في أرض هُجّر أهلها بالنار والحديد. خبيز نموذج لليساري السابق الذي يتخرج من مدرسة محسن إبراهيم (الذي لا يزال يقدم النصيحة لوليد جنبلاط، فيما الأخير بات يعرض خرائط بمواقع أعداء إسرائيل في لبنان لعلّ مدافع العدو تقضي عليها لاحقاً) والذي يلتحق بمدرسة قريطم، تحت إشرافك أنت.
أنا مثل «رمزي سعد» الذي كرّم عزّام عزّام في جريدة الأمير المتنوّر خالد بن سلطان، ودعا كل عرب الدولة اليهودية للتمثّل به. و«رمزي سعد» يضطر إلى الاختباء وراء الاسم المستعار فقط في المقالات التي يدعو فيها إلى التمثّل بعزّام عزّام والتصالح مع إسرائيل. كل هؤلاء ينتظرون «ربيع التطبيع» مع إسرائيل الذي جهد نحوه رفيق الحريري لينطلقوا على سجيّتهم، وإن بكّر في هذا بلال خبيز. لم أكن أدري أن الإشارة انطلقت. لم تبلغوني يا هاني. أنا من يستظهر مقالات جريدة النهار في الثمانينيات دفاعاً عن اتفاق 17 أيار، وضد مقاومة إسرائيل (وأنا مع حق الدولة في احتكار قتل اللبنانيين، أما قتل الغزاة من الإسرائيليين، فأحرّمُ قتلَهم). أنا من يحفظ عن ظهر قلب مقالة بول شاوول البليغة التي جاء فيها «برافو سنيورة». أنا مثل كريم مروة الذي يناقض ما كتبه عن المقاومة قبل أقل من عقد من الزمن. أنا مثل بشّار حيدر، وهو من عتاة معتنقي عقيدة الفتفتيّة ـــ العلّوشية، ومروّج لوصفات البنك الدولي. أنا مثل عمر حرقوص الذي يرى اليسارية في الترويج لحكمة الشيخ سعد في جريدة المستقبل. أنا الذي قاد انشقاقاً طائفياً عن الحزب الشيوعي في الجبل، وآخر في كسروان. أنا رهن إشارة شاشة القوات اللبنانية لأدعو الناس للاقتراع لأمين الجميل. أنا الذي أضحك عندما أقرأ وأقهقه لمقالات ريمون جبارة العنصرية ضد شعب فلسطين، الذي، مثله مثل جنود الصهاينة، لا يرى فرقاً بين فلسطيني مدني وفتح الإسلام.
أنا في الصحافة أرى سمير عطا الله قدوتي، وخصوصاً في مقالته قبل أشهر في مديح الأمير مقرن بن عبد العزيز، لخبرته في قطع الرؤوس في الساحات العامة وفي وصل الأعضاء التناسلية للمساجين بالكهرباء (ويلتقي في هذا مع الأنظمة البعثية). أنا المتلوّن المتحوّل الذي لا يستقر على موقف إلا إذا ما تماشى مع مصلحة آل الحريري الكرام. أنا من لا يهنأ له بال إلا إذا تسنّى له السفر على طائرة آل الحريري، حتى لو أجلسوه مع الأمتعة في بطن الطائرة. أنا الذي يجلس على قارعة الطريق في قريطم لعلّي أحظى بتكحيل عينيّ برؤية موكب الشيخ سعد. أنا الذي يجلس أمام شاشة التلفاز لعلي أرى الشيخ سعد متحدثاً أو مبتسماً ولو عابراً. أنا الذي أنتظرُ شهر رمضان لأستمع إلى الخطب التي تكتبونها للشيخ سعد في ليالي التحريض المذهبي. أنا الذي أدّعي التنوير من أجل نشر أفكار السلام مع إسرائيل واحتلالاتها.
يا سيد هاني. أما عرفتني؟ أنا أجلس في حاشية الزعيم الجنبلاطي أنتظر إشارة منه للوثوب. هو يحتاج أحياناً لمكسّرات. أنا الذي ما فتئت أهيّئ الرأي العام للتطبيع مع العدو الإسرائيلي عبر القول إننا تعبنا من الحرب، وكأن جيش لبنان أو القوات اللبنانية أو قوات جنبلاط هي التي تجشّمت عناء الحرب مع إسرائيل عبر العقود. أنا الذي أدّعي حرصاً على حقوق الإنسان في سوريا، وأتحالف مع قاطعي الرؤوس ومع عبد الحليم خدام الذي كان في رأس السلطة عندما أمعن النظام اغتيالاً وتدخلاً في لبنان، وعندما دبّر حرب المخيمات مع وكلاء محليّين من الطائفيّين. أنا الذي أحرص برمش العين (كما يقول الشاعر توفيق زياد) على سياحة الدعارة في لبنان استضافةً لأمراء النفط، وأنتظر رخصة منكم لافتتاح مكتب للتدليك. (التدليك قبل التحرير، يا هاني، هذا هو شعاري وديدني). أنا من يسخر من الفقراء بصورة يومية، ومن يبصق على الخادمات السريلانكيات. أنا من لاحقَ بائعي الكعك الفقراء وضربهم وطعنهم بالسكاكين. أنا أفضل من يمثّل وينطق باسم الشيخ سعد، ولنعترف بأنه بحاجة ماسة لمستشارين وكتبة بسبب قلة مواهبه وقدراته. أنا الذي أتلقى معلوماتي وتحليلاتي عن العلاقات الدولية من «محاضرات» محمد سلام الذي لا أزال أذكر دوره من أيام أمين الجميل الظلماء.
أنا كنت أمميّاً قبل أن أعتنق مقرّرات سيدة البير، «أنا وهالبير» ليوم القيامة، إلا إذا ارتأيتم عكس ذلك. أنا الآن أبتاع تلك التنك المعلبة من «هوا لبنان» وأتنشقها لأزداد عنصريةً وتعصّباً وطائفية وطبقية. أتنشّق هواء لبنان الملوّث (المبيع في الأسواق) من أجل أن أعتنق نظريات التفوق الجيني اللبناني. أنا الآن أقدّر حق تقدير إميل إده، ليس فقط بسبب ارتهانه للمستعمر، بل أيضاً بسبب صداقته مع الصهاينة (كان يرسل «أبو كارلوس» لتحميله المراسيل كما روى اتامار رابينوفيتش في كتابه عن لبنان، و«يا مرسال المراسيل» الصهيونية).
ويا هاني. أنا خذلت شعب فلسطين مثلما خذلتهم أنتَ. أنتَ كنت مناصراً للثورة الفلسطينية وأنا كنت أقول إن اليد التي تمتد إلى مخيم فلسطيني يجب أن تُقطع. لكن، في حرب (وحرق) الجيش اللبناني لمخيم نهر البارد، وكان آهلاً، وجدتني أقرع الطبول، وأطالب بهدمه فوق رؤوس أصحابه. وجدتني أتشرّب خطاب ريمون جبارة العنصري ضد السوريّين والفلسطينّيين، كشعب، (والعنصرية إذا ما كانت ضد عرب، تُعدّ مهضومة في وطن الترمس). أنا اصطحبت دفّاً وضربته على أبواب مخيم نهر البارد، إذ إنني وددت لو زادت مدفعية الجيش اللبناني دكّها للمخيم الآهل ـــ يوم زعم أحمد فتفت، ما غيره ـــ أن مدنيّاً واحداً مات في نهر البارد. أنا عرضت خدماتي في قنص الفلسطينيين على مشارف البارد، يوم وقف مئات من أنصار عائلة من «يحسب أن ماله أخلده»، عارضين خدماتهم على جيش لم يدافع عن أرضه بوجه حروب إسرائيل وعدوانها، وإن أصرّ العدو على قتلهم في أسرّتهم. كان هذا يوم اختفى الياس المرّ في حرب تموز بعد أن هدّد أن الجيش سيعلّم العدو درساً لن ينساه.
أنا مُنهك يا هاني. ماذا تريد مني أكثر مما أعطي. نحن في المركب نفسه، يا هاني. أنا أنتظر يوميّاً بالقرب من الهاتف، لعلي أحظى بمكالمة أو دعوة منك. كلّفني بمهمة لترى. أنا أستطيع أن أقوم بما يقوم به عقاب صقر ونصير الأسعد، وأكثر: أستطيع أن أخطب في ندوات تيار المستقبل في مختلف المناطق اللبنانية. كما أنني أستطيع أن أقف قرب تمثال رفيق الحريري لكي أحرص على تلميع حذاء التمثال يا هاني. الغبار قاتل هناك. ماذا لو هتفت «بالقرّادي» تحية للشيخ سعد؟ لم يبق فيّ كائن مستقل. أنا مُستنسخ عنك يا هاني، ألم تلاحظ بعد؟ ولو نظرة، يا هاني. ولو؟ وكما يقول وديع الصافي، «هيك بتطلعوا منا؟ وما تعودوا تسألوا عنّا»؟ ولو.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)
(كُتبَت هذه المقالة قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في بيروت)
تعليقات: