موظّف واحد لشكاوى ملايين المودعين: المصارف تخالف بلا «رقابة»


الآلية الواضحة لحماية المُستهلك داخل المصارف ومُحاسبة الأخيرة غير فعّالة، رغم تأسيس «وحدة حماية المُستهلك» في لجنة الرقابة على المصارف وداخل كلّ مصرف منذ عام 2015. الناس لا يعرفون حقوقهم وكيف يطالبون بها، في حين أنّ «لجنة الرقابة» تتصرّف كما لو أنّها مُستقيلة من مهامّها، مُتحجّجة بعدم وجود عددٍ كافٍ من الموظفين لمتابعة الكمّ الكبير من الشكاوى التي تصل

أرادت شابة - لديها عمل حرّ - أن تودع شيكاً بقيمة 2000 دولار في حسابها بالدولار في المصرف الذي تتعامل معه (مصرف من فئة «ألفا»). رفض المصرف إيداع الشيك - رغم صدور مُذكّرة في 2 تشرين الأول عن لجنة الرقابة على المصارف تمنع ذلك - بحجّة أنّ الحساب لا يُستخدم. نسفت الشابة ادّعاءات المصرف، بإبراز دفع 10 دولارات منه قبل أيّام من طلب إيداع الشيك، واستخدامه دورياً. إلا أنّ محاولاتها باءت بالفشل، ولم تنجح في إدخال الشيك إلى حسابها. «ماذا أفعل إذا اتفقت مع زبائني أن يدفعوا لي عبر تحرير شيكات وهذا مورد رزقي الوحيد؟»، سألت الشابة لتُجيبها مُديرة الفرع: «راكمي الشيكات وحين يُصبح المبلغ بحدود الـ30 ألف دولار، نودعه في الحساب». التمييز بين المودعين، وغياب الشفافية، ومخالفة تعميم لجنة الرقابة على المصارف، ثلاث مخالفات نفّذها المصرف المعنيّ من دون أن يُعاقَب، لأنّ الزبونة لم تعرف لمن يجب أن تشتكي. هي مثال لآلاف الحالات التي تُعاني يومياً في تعاملها مع المصارف، أكان عبر القيود المفروضة على السحوبات بالليرة والتي تُعدّل من دون إبلاغ المودعين، أو إيقاف بطاقات دفع فجأة أيضاً من دون إعلام الزبائن، ورفض تطبيق تعميم مصرف لبنان بدفع كامل المبلغ المُحوّل من الخارج بالدولارات الطازجة، وفرض عمولات على دفعات تسديد القروض... بات عدد المخالفات كبيراً ومكشوفاً إلى درجة أنّه لا يستدعي تقديم شكوى حتّى تتحرّك الجهات الناظمة للقطاع المصرفي وتُطالب بحقوق المواطنين، ولكنّها «تُكتّف يديها» على قاعدة أنّه «ليس باليد حيلة».

إحدى الوحدات الموجودة في لجنة الرقابة على المصارف تُسمّى: «وحدة حماية المستهلك»، تتألّف من «كادر بشري» يضمّ... موظّفاً واحداً، ما يدلّ على (قلّة) الأهمية التي يُوليها مصرف لبنان و«اللجنة» لهذا الموضوع. يُفترض بلجنة الرقابة أن تكون «السيف المُصْلَت» على رقاب المصارف، منعاً لتدابير استنسابية بحقّ العملاء، ولكنّها تكتفي بلعب دور «ساعي البريد» بين الجهة المُشتكية ومصرف لبنان حيث يتمّ إيداع التقارير عن الشكاوى المُقدّمة. المسؤولية في ذلك لا تقع حصراً على الموظّف المسؤول عن «وحدة حماية المُستهلك»، بل على «اللجنة» والبنك المركزي اللذين لا نيّة لهما لمُحاسبة المصارف المُخالفة لتعاميم «المركزي» ولقانون النقد والتسليف وللقوانين اللبنانية، حتى باتت سلطة تشريعية / تنفيذية قائمة بذاتها، تختار الزبون المحظيّ الذي ستُلبّي له طلباته، فيما تفرض قيوداً على بقية الزبائن.

عام 2015، أنشئت «وحدة حماية المستهلك» في لجنة الرقابة على المصارف، وذلك تلبيةً لشروط «الحوكمة» (معيار مطلوب تطبيقه من «المُجتمع الدولي» في القطاعين العام والخاص، ويُسَوَّق على أنّه يُنظِّم العمل في مختلف القطاعات ويضع قواعد ومبادئ لإدارة المؤسسات والرقابة عليها) المفروضة من المؤسسات الدولية. ووَجّهت لجنة الرقابة التعميم الرقم 281 إلى المصارف، الذي يتضمن «أصول إجراء العمليات المصرفية والمالية مع العملاء»، استناداً إلى تعميم مصرف لبنان الرقم 134 الصادر في 12 شباط 2015، بما ينصّ على أن يُنشئ كلّ مصرف وحدة مُختصة بمتابعة معاملات وشكاوى الزبائن، تكون «مستقلة» تتبع مباشرةً إلى المدير العام للمصرف، وتملك الصلاحية الكاملة في التعامل مع الأطراف المعنية كافة، وحقّ الاطلاع على جميع الوثائق والتقارير والمعلومات الضرورية لتنفيذ مهامّها. أمّا المصرف المُخالف للتعميم، فيُعرّض للعقوبات المنصوص عليها في المادة 208 من قانون النقد والتسليف، التي تُعطي المصرف المركزي حقّ إنزال عقوبات بالمصرف، تبدأ من التنبيه وصولاً إلى شطبه من لائحة المصارف. عاملون في عدد من المصارف يؤكدون «هامشية» وحدة حماية المُستهلك وعدم إيلائها أي أهمية، «وعدم استقلالية قرارها، فهي تُنسّق مع الإدارة قبل البتّ بطلبات أو إهمال أخرى».

نظّمت لجنة الرقابة ندوتين لشرح مفهوم «حماية المستهلك»، وعقدت ورشة عمل بتاريخ 9 تشرين الثاني 2015 حدّدت الإجراءات المطلوبة بطريقة مُفصّلة وشاملة، توحي وكأنّ مصالح العُملاء باتت محمية، ولكنّ هدفها الفعلي كان إرضاء طالبي «الحَوكمة». فقد جرى التأكيد على «التعامل العادل مع العملاء، والتأكّد من أنّ المُنتج يُناسب حاجات وقدرات العميل، وتقديم الشروحات للعميل وتزويده بملخّص عن المنتج وشروطه ومخاطره ومنافعه...». لم يتمّ الالتزام بذلك، كما أنّه خُرقت شروط «الشفافية وإبلاغ العميل بأي تغيّر في شروط المُنتج، ووضع آلية فعّالة لتقديم المراجعات»، وبالتأكيد لم يتمّ تكثيف «برامج التثقيف للمجموعات الأكثر عرضة للتضليل مثل ذوي الدخل المحدود وكبار السنّ وذوي الاحتياجات الخاصّة».


لا تتواصل لجنة الرقابة مع المصارف إلا إذا كانت تُخالف تعاميم «المركزي»

فهذه الفئات كانت الأكثر تأثّراً بسرقة الودائع وإفلاس القطاع المالي وانهيار الاقتصاد. ما الإجراءات التي اتخذتها لجنة الرقابة على المصارف؟ علماً أنّها تفرض على المصارف والمؤسسات المالية «التصريح فصلياً عن عدد المراجعات والشكاوى التي تتلقّاها»، أي أنّها على اطلاع حول ما يجري، ولكنّها لا تُبادر لتضع حدّاً للمخالفات، وإلا لماذا تستمر المصارف في إذلال المودعين وتتباهى بمخالفة التعاميم؟

حقوق الزبائن وآلية تقديم الشكاوى «مُعتّم» عليهما. فقلّة من الناس تعرف بوجود وحدة لـ«حمايتها». ومن سبق له اللجوء إليها، وجد ملفّه «يُنيّم» في الدرج. لم يستطع مودع «صغير» انتزاع حقّه من مصرف، إلا حين تخلّى عن «سلميته» وصرخ مُطالباً بحقّه، وحين «اقتُحمت» فروع برفقة متظاهرين من قطاع الطلاب والشباب في الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الشبابية للتغيير ومجموعة شباب المصرف، لإجبار المصارف على دفع النقود. وحتى هذه «الخروقات» بقيت قليلة جدّاً، مقارنةً بحجم المخالفات التي تحصل، بسبب عدم فعّالية الهيئة الناظمة للقطاع المصرفي وتخلّيها عن ممارسة دورها. أما القضاء فلم يتحوّل بعد إلى جهة ضامنة لحقوق المودعين، ولا سيّما أصحاب الحسابات الصغيرة والمتوسطة، وهم الأغلبية.

يقول موظفون في لجنة الرقابة على المصارف إنّهم حين يتلقون شكاوى المودعين «نطلب منهم بدايةً التواصل مع الوحدة الخاصة داخل كلّ مصرف، إذا لم يتمّ إيجاد حلّ، يُرسل الزبون شكوى إلى مصرف لبنان أو رئيسة اللجنة ميّة دبّاغ التي تُحوّلها إلى الوحدة المُختصة». بعد دراسة الشكوى، «إذا تبيّنت مخالفة المصرف لأحد تعاميم مصرف لبنان، نتواصل معه. أما إذا كان الموضوع لا يُخالف أياً من التعاميم، فلا تتمّ المتابعة». ولكن العديد من إجراءات المصارف تعسفية وغير قانونية، ولم يصدر تعميم لتأطيرها، كالقيود على التحويلات؟ يرفع الموظفون «العَشرة»، مُبرّرين عدم تحرّكهم بأنّ «الموارد المُتاحة محدودة، ولا يوجد فريق مُتفرّغ لمتابعة هذه المسائل»!

اتُّفق على كتابة تقرير بالشكاوى التي ترد إلى لجنة الرقابة، ورفعه إلى مصرف لبنان

قبل نهاية عام 2019، لم يكن الضغط كبيراً على وحدة حماية المُستهلك. في البداية كانت الشكاوى «تقتصر على البعثات الأجنبية التي مُنعت من إجراء السحوبات». لم تكن المصارف متجاوبة، فاشتكت البعثات لدى لجنة الرقابة عبر وزارة الخارجية والمغتربين. بعدها، توالت الشكاوى التي تصل مُباشرةً إلى «اللجنة»، ولا يتمّ «الاستنفار» لحلّها إلا إذا كان المُتضرّر على علاقة شخصية بموظف أو أحد الأعضاء الذي «يتوسّط» له لإيجاد حلّ سريع. تؤكّد المصادر المصرفية أنّه حالياً - وبعد أن أصبحت المخالفات بالآلاف - لم يعد التواصل فعّالاً بين «وحدة حماية المستهلك» في لجنة الرقابة والوحدة المعنية في المصارف، «واتُّفق على كتابة تقرير بكلّ الشكاوى التي ترد إلى لجنة الرقابة، ورفعه إلى حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة». وتنتقد المصادر حُجّة عدم وجود عدد كافٍ من الموظفين، «بعد أن كانت اللجنة تُرسل ما بين موظفَين و4 موظفين إلى المصارف في إطار العمل الرقابي، أصبح العدد مُقتصراً على موظفَين مهما بلغ ححم المصرف، ما يعني وجود عدد إضافي من الموظفين القادرين على متابعة الشكاوى». لكن المشكلة تبدأ قبل ذلك بكثير: معظم الزبائن لا يعرفون حقوقهم، ولا يعلمون بوجود لجنة للرقابة على المصارف يمكنهم أن يشتكوا إليها، وهي لم تبذل أيّ جهد يُذكر لتخبر الزبائن بأنها موجودة.


تغييب «جمعيّة المستهلك» خضوع لمصلحة المصارف

يتحدّث رئيس جمعية المُستهلك، زهير برّو عن «محاولات عديدة قُمنا بها للقاء حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لنطلب منه، بصفته رأس الهيئة الناظمة، إنشاء لجنة حلّ نزاعات بين الزبائن والمصارف، فرفض اللقاء كما لو أنّه من الطبقة المُقدسة». فالمصارف رفضت أن ينطبق عليها قانون حماية المُستهلك، مُتّخذة من المادة 17 منه - التي تقول إنّ هذا القانون يُطبّق على القطاعات المصرفية والنقابات المهنية والوكالات المالية بما لا يتناقض مع قوانينها الخاصة - ذريعة حتى تبقى مُتفلّتة من أي مُحاسبة. تواصلت جمعية المستهلك أيضاً مع جمعية المصارف، «بعدما وردتنا شكاوى حول التلاعب بالودائع وتوقيع الزبائن على أوراق لم يطلعوا عليها أو فرض شروط عليهم»، ولكنّها أيضاً «لم تكن متعاونة».

يُعارض برّو تشكيل «وحدة حماية المُستهلك من قبل جحا (مصرف لبنان) وأهل بيته (المصارف) من دون أن نكون طرفاً فيها، فلا أثر لها في تأمين مصلحة المواطنين. الجمعية هي من تُمثّل المُستهلكين وأيّ شيء آخر يكون كذباً، ورفْضُ وجودنا خضوع تامّ لمصالح المصارف».

رئيس جمعية حماية المُستهلك، زهير برّو
رئيس جمعية حماية المُستهلك، زهير برّو


تعليقات: