كأنّما ذلك الدويّ الأصمّ المُرعِب الذي أحدثه انفجار مرفأ بيروت كان مثابة صرخة الولادة.. ولادة عصر لبنانيّ جديد يتجلّى بهذا الجيل الواعد والحيويّ من الشابّات والشبّان الذين هبّوا بالمَكانِس والمَعاوِل والرفوش والنوايا الطيّبة لمؤازَرة ضحايا العمل الإجراميّ على اختلاف مستويات إصاباتهم، ومسْح الأضرار الهائلة التي لحقت ببيوتهم ومَتاجرهم ومؤسّساتهم وأملاكهم، علاوة على الطرقات والساحات والأحياء ومَطارح الحياة.. حياتهم التي انهارت في ثوانٍ معدودات: المرفأ، مار مخايل، المدوّر، الجمّيزة، الرميل، الأشرفيّة، زقاق البلاط... إلخ.
كان أمراً مروّعاً وغير مسبوق في البلد ولا حتّى في الإقليم برمّته، أصاب كلَّ مخلوقٍ حيّ في بيروت وكلّ ما هو مبنيّ فيها ومصنوع وقائم. وفي ملاحظة شخصيّة مُرعِبة بالمعنى الحرفي، شهدتُ بنفسي في ذلك الحيّ القريب نسبيّاً من نقطة الانفجار، الشارع أمامي يتمطّى بإسفلته ورصيفه وأوراق الشجر المُتناثِرة فيه والزجاج والأبواب والنوافذ "المُتهاطلة" عليه من البنايات، وكأنّه يلوب ويتلوّى باحثاً عن مَهربٍ ومَلاذٍ من هذا العصف المُبهَم والجهنميّ الآتي من كلّ الفضاءات.
هَوْلٌ عظيم وأرواحٌ تَنتحب
في تلك اللّحظات الدراميّة التي يظنّها شاهدُها آخر الدنيا، كان الوضع في الحقيقة أكثر سوءاً بكثير ممّا يبدو عليه. فبيروت تحوَّلت إلى كتلٍ من أموات وعجائن مشظّاةٍ من لَحْمٍ ودَمٍ وإسمنتٍ وزجاج. كأنّنا أمام "غرنيكا" لبنانيّة واقعيّة هذه المرّة.. لا تقريبيّة ولا مُتخَيّلَة، ترسمها ريشةُ أرواحٍ تنتحب وهولٌ عظيم من خراب وسواد وجغرافيا مفكَّكة ومُتشرذِمة بحالها. كلّ ذلك في بلد الدولةُ فيه عاجزةٌ والإدارةُ مشلولةٌ والإمكانيّاتُ تحت الصفر، بينما المنكوبون في أمسّ الحاجة إلى شربة ماء.
قبل أن تنتبه السلطات الرسميّة التي ضرّجتها وأقعدتها مَطامع السياسيّين ومُنازعاتهم التي لا تنتهي، كانت ساحات الدمار تُحدّق متسائلة بتلك المجموعات الشبابيّة النبيلة من الصبايا والشبّان اللّبنانيّين الذين تقاطروا، دونما تردُّد، من كلّ المناطق اللّبنانيّة ومن مُختلف الأديان والطوائف والمَشارب والتيّارات السياسيّة والإيديولوجيّة، مُسارِعين لمدّ يد النجدة والعَون، في خطوة عفويّة طبيعيّة بَرْهَنَت عن وحدة اللّبنانيّين ولهفتهم لإنقاذ أنفسهم وإنقاذ وطنهم، هكذا بعفويّة مُتدفّقة ومن دون أن يوجّههم أحد.
كانوا في البدء مجموعات صغيرة من أصحاب النوايا الطيّبة يتقاطرون إلى موقع الحدث المأسويّ في حالة ذهول وارتياب. وخلال أقلّ من 24 ساعة على حدوث الدويّ الوحشي، تنامت هذه المجموعات عشرات.. عشرات، ونشطت الهواتف والنداءات بين الأصدقاء والمَعارِف، فتضاعفت الأعداد في وسط البدلات المرقّطة لأفرادٍ من الجيش اللّبناني وقوى الأمن، فضلاً عن رجال الدفاع المدني ممَّن سارعوا للالتحاق أيضاً. ولم ينتصف ليل تلك اللّيلة اللّيلاء الثانية، إلّا وقد وصل المزيد من الشابات والشبّان، من صيدا وصور والنبطيّة وأقاصي الجنوب، ومن عالَيه وسوق الغرب وحمّانا وفالوغا وأعالي الجبل، من المتن وكسروان وبيت مري وفاريا، من جونية وجبيل وشكّا وطرابلس وعكّار، من البقاع وزحلة وبعلبك.
وشيئاً فشيئاً راح المَشهد ينتظم فوق الركام بسواعد الشابّات والشبّان واندفاعهم وتميُّزهم. هؤلاء كانوا في غيرتهم وتألّقهم وتفانيهم، فرسان الولادة الجديدة للبنان الغد... لا يُعرف إنْ كان بينهم مسيحيّون أو مُسلمون، ولا إنْ كان منهم سنّة أو شيعة أو دروزٌ أو من الأقليّات. لم يُعرف إن كانوا من أتباع هذا الخطّ السياسي أو ذاك. كلّ ما عُرف عنهم أنّهم كانوا لبنانيّين هالهم ما جرى لمُواطنيهم ومدينتهم، فهبّوا لمدّ يد العون والبلسمة.
لا أحد بذاته يُمكنه الادّعاء أنّه كان وراء هذه الاندفاعة الوطنيّة النظيفة، لا "زعيم" ولا رئيس ولا وزير بوسعه تجيير هذه الهبّة النبيلة لنفسه أو لإدارته أو لحزبه، لا أحد من السياسيّين بوسعه الادّعاء بمسؤوليّته عن إطلاق هذا المطر الخيِّر من الجهود والعطاء. لا هيئة أو منظّمة أو مجموعة أو شركة أو حزبٌ أو جمعيّة... كلّ هؤلاء الرسوليّين اندفعوا من تلقائهم للمُساعدة، غير متوقّعين أيّ مكافأة ولا شكر. كلّهم كانوا بنقاوة المؤمنين من دون أن يرفعوا رايات الأديان، وكلّهم اعتمدوا سياسة مدّ يد العون من دون أن يتلوّثوا بالسياسة.
كيف كان يعمل هؤلاء...؟
قالت صحيفة "واشنطن بوست" إنّ "آلاف المتطوّعين نزلوا إلى الشوارع لتنظيف آثار الدمار الذي ألحقه الانفجار بمدينتهم، وقال كثيرون إنّهم لا يؤمنون بأنّ حكومتهم ستستجيب لهذا الوضع، لذا فإنّ عليهم التعويل على أنفسهم لإنقاذ مدينتهم. والحقيقة أنّه في الأسبوع الذي أعقب الانفجار، لم تكُن هناك أيّ جهود طارئة من قِبَلِ السلطات الحكوميّة المُختصّة لإزالة الأنقاض ومُساعدة المُشرَّدين".
وأضافت: "دخلَ متطوّعون إلى منازل هُجّر أهلها في أعقاب الانفجار، فقاموا بمسْح الدماء الملطِّخة على الجدران وكنْس شظايا الزجاج وترتيب الكُتب واللّوحات والأيقونات الصغيرة وغير ذلك من المُمتلكات الشخصيّة للناس".
كان ما يقوم به الشبّان مجرّد مُبادرات شخصيّة إنسانيّة وُلدت من رَحَم الكارثة. منهم من غرق في رفع الأنقاض المُتناثرة التي يُمكن للشخص/ الفرد التعامُل معها، وآخرون انخرطوا في توزيع الماء والقهوة وأقنعة الوجوه والشطائر، بينما وَقَفَ بعضٌ آخر لحراسة المباني التي خُلّعت أبوابها ونوافذها وغادَرها ساكنوها، بهدف حمايتها من النهب".
كذلك سجَّلت الشاشات التلفزيونيّة المحليّة، العاملة على تغطية الأنشطة الجارية، تصريحاتٍ شتّى لصبايا وشبّان من المُنخرطين في صلب آليّات العمل، منها مثلاً قول قائلة من المتطوّعات: "الجميع واثقون من أنّنا الوحيدون القادرون على إعادة إصلاح البلاد... ليس لنا إلّا بعضنا البعض".
يستبدلون الكؤوس بالمَكانس
كانت الظاهرة لافتة في ذروة المأساة حين هبّ هذا الشباب اللّبناني مُبادِراً بالعمل التطوّعي لإعادة بناء مدينتهم المنكوبة، مُعتمدين على أنفسهم ومُتّكئين على وطنيّةٍ قويّة وقلوبٍ عامِرة ومحبّة نقيّة وثقة بالنَّفس ملأت فضاءات المأساة. وبسرعة قياسيّة، ومن دون أيّ تخطيط مُسبق، قاموا عبر مَواقع التواصُل الاجتماعي، بإنشاء صفحات وتشكيل مجموعات انتظمت تلقائيّاً لمُساعدة المُحتاجين الذين ألمّت بهم الكارثة. وانطلقوا يُنسِّقون جهودهم عبر وسائل التواصُل الاجتماعي ليمسحوا دماء الأبرياء وينفضوا غُبار الآلام عن الجرحى والمرعوبين.
ولا شكّ أنّ الأقمار الاصطناعيّة التي طالَب الرئيس اللّبناني مُشغّليها من فرنسيّين وأميركيّين بالمُساعدة في تحديد مسبّبات الانفجار، سجَّلت من جملة ما سجّلته من مَداراتها العالية، هذه الحركة "النمليّة" الدؤوبة للألوف من المُواطنين وهُم يتوجّهون من أنحاء المُحافظات والأقضية كافّة نحو مرفأ العاصمة وجواراته، لمدّ يد العَون والمُساعدة، بينما كان المئات من المُواطنين الآخرين يُعلنون عبر وسائل التواصُل الاجتماعي ومن خلال الشاشات العاملة على مَدار الساعة، فتْح منازلهم في مُختلف المناطق اللّبنانيّة لاستقبال العائلات المُتضرِّرة وتأمين سائر مُستلزماتهم، وينشرون إعلانات وأرقام هواتف عبر وسائل التواصُل، عن توفيرهم بيوتاً وفنادق وشققاً مفروشة وشاليهات، لاستقبال الذين دُمِّرت بيوتهم أو تضرَّرت.
كانت المُشاهدات على الأرض وبين الركام تعمّر القلوب بالأمل والثقة بهذا الجيل الآتي كأنّما من الشمس. قالت إحدى المُراسلات الصحافيّات إنّ جماعاتٍ من الصبايا والشبّان توجّهوا إلى حيٍّ اعتادوا السهر فيه، فاستبدلوا الكؤوس بالمَكانس وأطباق الطعام بعِدّة الإنقاذ، وتطوّعوا لتنظيف المقاهي والمَطاعم التي كانت مَرابع لسهراتهم، وقد حطَّمها الانفجار، ووَعدوا أن يكونوا البديل العملي للإدارات الرسميّة الغائبة والعاجزة.
هؤلاء كلّهم، كما غيرهم المئات والألوف، تحلّقوا بأعدادهم التي لا تُحصى حول المرفأ المكلوم، في مُختلف الأحياء والشوارع المُحيطة به عن قرب وعن بُعد، مُستشعرين الهول الذي ألمّ بهذا العنوان الأبرز من عناوين المدينة، ليس لقربه منها فقط، بل أيضاً لكونه الأساس المفتوح على الدنيا والذي بُنيت المدينة عليه. فالمناطق التي ضربها الانفجار هي شوارع وأحياء تُجاوِر البحر وتتفاعل معه، ما أكسبها ثقافة البحر بمعنى الانفتاح على الآفاق، وهي العدوى التي تشرَّبها البلد كلّه. ولطالما كانت الحواضرُ القائمة على السواحل مُنفتحة على التلاقي والتواصُل والجديد الآتي من خلف الأعالي المُزبدة؛ لا تعرف العصبيّات والانكماش وتُحبِّذ الانخراط بالآفاق وتُرحِّب بما تأتي به. والآفاق هنا تعني أيضاً الإقبال على قراءة الأحداث والأمور قراءة مُستطلِعة واعية وطموحة ومُتجاوِزة لواقع ما هو قائم على اليابسة وروتينه. هؤلاء الشبّان الغارقون في غُبار "العَوْنَة"، شكّلوا ويُشكّلون نبض الأمل وروح الاستبشار بوطنٍ يستعيد نفسه من براثن الحروب والمُنازعات والأحقاد المُغلّفة بمزاعم الدّين والسياسة، وكلاهما منها براء.
من هنا يقدِّم لنا لبنان اليوم مَشهداً تاريخيّاً عزيزاً وفاصلاً للسباق الجوهري بين جيل النجدة والمُساعَدة والتآخي، المُدجَّج بالنقاوة والطيبة والإخلاص والانفتاح على الغد المتنوّر.. وجيل الديناصورات الجاثمة على الصدور بقوّة الطغيان وباستثمار العصاب الطائفي والمَذهبي البغيض. والغلبة ستكون بالتأكيد للجيل الجديد الذي شهدنا نماذج منه على الأرض وفي الميدان، من دون أن ننسى طبعاً ما يُخالِط هذا الجيل من أعشابٍ سامّة، سرعان ما هو قادر على تنظيف نفسه بنفسه منها.
وفي حين كان "المجلس الأعلى للدفاع" المُجتمِع في قصر الرئاسة في بعبدا، يُعلن بيروت "مدينة منكوبة"، كان مئات وآلاف المتطوّعين المُتناثرين على سلالم الأبنية المتكسِّرة، وفي غمرة الشوارع المُحطَّمة والساحات المملوءة بالركام، يتنكّبون المَكانس والمَجارف، ويُعلنون، بالوجوه المغبرّة والأكفّ المُجرّحة والقلوب المتوثّبة، ولادة عصر لبناني نظيف وبريء من أمراض شيخوخة الزمن السياسي الحالي المريض المُولّي بالتأكيد.
وبينما يمشي لبنان الهُوينا إلى لمْلَمة جراحه وتجاوُز أزماته والكوارث التي أسقطوها عليه، يرفرف جيل الشباب هذا عَلماً مُشرّفاً لوطنٍ يقوم من رماده بقوّة المحبّة والتكاتُف والتحرُّر الوشيك بالتأكيد.
الدكتور فؤاد خشيش / كاتب لبناني
الكاتب الدكتور فؤاد خشيش
تعليقات: