انبرَى إمامُ المسجدِ بوجهٍ يَنشقُّ منه النُّورُ، وعلاماتُ التّقى والورعِ باديةٌ عليه، يُلقي خِطبَةَ الجُمعةِ عنْ صوتِ الضَّميرِ، إنَّهُ تِرياقُ النَّفسِ المُسّمَّمَةِ بالشَّهوةِ العمياءِ، صدىً يجِبُ أنْ يَتَرَدَّدَ قبلَ صياحِ الدَّيكِ،عندَ بدايةِ كلِّ فَجرٍ.
جميعُ المُصّلِّينَ يَهُزُّونَ رؤوسَهُمْ، تمتلئُ عقولَهُمْ بالحِكمةِ، وأرواحهُمْ بالهِدايةِ والرَّشادِ.
“أبو نعيم” يَجْلُسُ في الصُّفوفِ الأماميَّةِ بِهِمَّةٍ كَبِئْرٍ جَفَّ الماءُ فيهِ، يجتَمِعُ الاختناقُ في حَنْجَرَتِهِ يَمنَعُهُ منَ الكلامِ، يستمِعُ منَ الخِطبَةِ رُبعَها وثَلاثَةُ أرباعٍ من خِوارِ الجوعِ في مَعِدَتِهِ، يحشو القَهْرُ صَدْرَهُ يَقْتُلُهُ كلَّ يَومٍ لكِنَّهُ لا يُفارِقُ الحياةَ.
يَعْمَلُ “أبو نعيم” في جَمْعِيَّةٍ خيْرِيَّةً تَنْشُدُ مُساعدةَ الفُقراءِ والمُحْتاجينَ، يَلُفُّ ويدورُ طيلَةَ النَّهارِ في أنحاءِ المَدينةِ يَجْمَعُ التَّبَرُّعاتِ والصَّدَقاتِ، يَهْدُرُ طاقَتَهُ مقابِلَ مَبْلَغٍ زهيدٍ في سبيلِ الرَّغيفِ ، وَإيجادِ ما يَسُدُّ بهِ رَمَقَ عِيالِهِ .
زوجَة”أبو نعيم” تُنَغِّصُ عيْشَهُ، تُعايِرُهُ بِجاراتِها :_ وهي تعلَمُ أنَّ مُعايَرَةَ الرِّجالِ تَهُدُّ الجِبالَ _ ” أنظرْ إلى زهية تَرْكَبُ سَيَّارَةً جديدَةً ، وسُعاد بَدَّلَتْ بيتَها بِشَقَّةٍ أوسعَ في منطقةٍ راقِيَةٍ، دلال صاحِبَةَ الدُّكانِ اشترى لها زَوجُها مجوهراتٍ بالشَّيءِ الفُلاني :”يا رَجُل! نَحْنُ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ منَ البؤْسِ والشَّقاء”، نَتعَفَّنُ في قاعِ الحياةِ، يَنْهَشُنا الشُعورٌ بالدّوُنِيَّةِ والاحتقارِ، ألا يَحُقُّ لأولادِنا تَنَفُّسَ مَتَاعِ الحياةِ، أنْ يَتَعَشُّوا قبلَ انْ يناموا، ذابَتْ عيونهم وهم يحملقون في رِفاقِهِمْ يَرْتَدونَ أفْخَرَ الثِّيابِ، يرْتادونَ أفخَمَ المطاعِمِ ، يَلْعَبونَ يَضْحَكونَ… أخافُ عليهِمْ أنْ يَتَشَرَّدوا في سكَّةِ الانحِرافِ، ويتُوهون في أنفاقِ السَّرِقَةِ والمُخَدَّراتِ.
تَصَدَّعَ رأسُ” أبو نعيم” ،غادرَ المكانَ ، أغْلَقَ بابَ ضميرهِ ، سَدَّ ثُقُوبَهُ المَفْتوحّةَ كي لا يُعاوِدُهُ ثانِيَةً، وَقَالَ في نَفْسِهِ :”يَجِبْ أَنْ أتَصَرَّفَ قَبْلَ أنْ يَدْهَسَ القّهْرُ العُمْرَ والعائِلَةَ ، ويُواريها في كَهْفِ الإنتظارِ. وَضَعَ مبادِئهُ في الثَّلَّاجَةِ، وَمَدَّ يَدُهُ إلى صَندوقِ الجَمْعِيَّةِ ،وهو يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ :”رَبِّي أنتَ أَعلَمُ منَّي بحالي، سَاُعيدُ المَالَ بّعْدَ أنْ أَجْمَعُهُ، وهو في قَرارةِ نفسِهِ يَعْلَمُ أنَّهُ واهِمٌ ،غّطَّى وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ ، وَبَكَى!
لكِنْ سُرْعانَ ما جَحَظَتْ عيناهُ، ارتعَدَ من الخَوفَ، صَعَقَتْهُ الدَّهْشَةَ، فلقَدْ عَثَرَ على أوراقِ المُساعَداتِ مُدَوَّنَةٌ باسمِ العائلاتِ الميسورةِ، وما تبَقَّى منَ المالِ مُسَجَّلٌ تَحْتَ بَنْدِ نفَقَاتٍ سِرَّيَّةٍ.
فَضَحَتِ الكاميراتُ أَمْرَ السَّرِقَةِ، اقتيدَ “أبو نعيم” إلى السِّجْنِ في حين أنَّ السَّارقينَ الحقيقيينَ يَنْهَبونَ الزُّهورَ والفَرَحَ والأوطان، ويَنْعَمونَ بالحُرِّيَّةِ.
في السِّجنِ،”أبو نعيم” يَسْتَمَعُ إلى مُحاضَرَةٍ عنِ الأمانَةِ، الشَّرعُ واضِحٌ ، يَدُ السَّارقِ تُقْطَعْ حتَّى لوِ امتَدَّتْ إلى كَسْرَةِ الخُبْزِ.
عندما جاء وَقْتُ الزِّيارةِ، تَقَدَّمَ المحامي من المُجرِمِ الخطيرِ لِيُبْلِغَهُ قرارَ زَوجَتِهِ بالطَّلاقِ، وتَغاضي الأولادَ عنْ زِيارَتِهِ خَوْفًا على سُمْعَتِهِمْ بينَ النَّاسِ.
أصْدَرَتِ المَحكَمَةُ اتِّهامينِ بِحَقِّ” أبو نعيم” الاختلاسِ والإثراءِ غيرِ المَشْروعِ .
للأسفِ! عندما يَشْهُرُ الظُّلمُ سَيْفَهُ يَرْكَعُ الضَّميرُ ويُحَوِّلُ المَظلومينَ إلى عرائسِ الماريونيت في الحياة.
وَمَنْ سَيُدافِعُ عَنْ سارِقٍ يرْكُلُ قِيَمَهُ ومبادِئهُ لِمُجَرَّدِ أَنَّ القَهْرَ يقْتُلُهُ كُلَّ يَومٍ لكِنَّهُ لا يُفارِقُ الحياةَ؟
* أحلام محسن زلزلة (الواتس:70892054)
* المصدر: مجلة همسة
تعليقات: