بإسم الاب والابن والروح القدس الاله الواحد أمين، أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لا تقوى عليها، تقدمة عربون شكر وتقدير إلى رعية مار جرجس والاباء الافاضل الاب منصور والاب بيار والاب عيد وأهالي القليعة الكرام السيد ميسم زكي زاكي، هكذا وقع ميسم هديته إلى البلدة التي حضنته وعاملته كفرد من أفرادها، ليس بالقليل ما عاشه مسيحيو العراق في شمال العراق من اضطهاد وتنكيل مما أدى الى هروب الآلاف من بلادهم، خوفا من بطش تنظيم داعش، فاضطروا إلى النزوح من مركز المدينة ومن مناطق سهل نينوى باتجاه المناطق الآمنة في إقليم كردستان العراقي قبل أن يهاجر غالبيتهم إلى أميركا وأستراليا وأوروبا ولبنان.
وبعد قدوم المئات منهم إلى لبنان إستقبلت بلدة القليعة الحدودية في قضاء مرجعيون جنوب لبنان عددا لا بأس به من العائلات العراقية المسيحية التي كان همها الاول أن تجد الامان والطمأنينة بعد أن عانت ما عانته من اضطهاد وتنكيل في بلادها دون أن يأخذوا معهم شيئا سوى الذكريات.
وهذا ما حصل مع الشاب العراقي ميسم زاكي.
هرب ميسم كبقية أهله وجيرانه وأبناء منطقته من العراق خوفا من داعش حاملين أطفالهم وعجائزهم تاركين خلفهم كل شيء من منازل وسيارات وأملاك وأموال والبعض حتى ترك ثيابه لينجوا بأرواحهم، فحط الرحال بهم في لبنان قبل ثماني سنوات، فميسم ككثير من العراقيين الذين وصلوا إلى قضاء مرجعيون وتوزعوا في بعض ضيعه وكان نصيبه أن يحل في بلدة القليعة. هذه البلدة المسيحية المارونية التي لطالما التجأ إليها الكثيرين خلال الحرب اللبنانية، فبدأ لتأسيس حياة مؤقتة له ولعائلته ريثما يحين دوره في قبول طلب اللجوء له ولعائلته الى أي بلد أجنبي. فبدأ بالعمل في ورش لبناء المنازل كون نجارة الباطون هي صنعته. وبعد فترة وجيزة كبرت عائلة ميسم إذ رزق بمولودة ثانية، فزاد حمله وزادت رغبته بالهجرة كي يستطيع أن يؤمن حياة كريمة لابنتيه الصغيرتين في بلد يحترم حرية الانسان والمعتقد والدين.
وعندما حان موعد هجرته إلى إحدى البلدان الغربية، وبانتظار أن يفتح مطار هذه الدولة الذي أقفل قسرا بسبب جائحة كورونا، أحب ميسم أن يقدم للقليعة ولرعيتها تذكار عربون شكر وتقدير لكل ما قدموه له ولعائلته من محبة وأمان ومنزل وحاجيات خلال كل فترة إقامته فيها.
فلم يجد أنسب من بناء مجسم لكنيسة مار جرجس الأثرية التي هي كنيسة البلدة العجائبية، والتي تجمع أبناءها على الذبيحة الالهية يوم الاحد والاعياد من كل حدب وصوب.
وقال ميسم: "صليت كثيرا كي يلهمني الرب ويساعدني على إتمام هذا العمل بحرفية كونها المرة الاولى لي في بناء أي مجسم. وكان كل همي أن أقدم تذكارا صغيرا مني ومن عائلتي لهذه البلدة الحبيبة ولكاهن الرعية المونسنيور منصور الحكيم والخوري بيار الراعي والاب عيد وكل شخص وفرد قدم لنا المساعدة والمعونة بكل محبة واحترام خلال هذه الفترة.
وفي اليوم التالي توجهت الى الكنيسة وبدأت بأخذ المقاسات وبعدها بدأت برسم خريطة مفصلة عنها ليبدأ مشوار تنفيذها".
وأضاف: "أصابعي المتعودة على لي قضبان الحديد بقوة في الورش، ودق المسامير في خشب "الطوبار" لم تكن هي التي تتعامل مع عيدان الشوي الخشبية الرفيعة الهشة التي وقع عليها اختياري لابني منها هذا المجسم.
لم أتخيل من قبل أن تصبح ل"أسياخ الشوي الخشبية" إستخدامات أخرى، وتتحول لفن من الفنون، الذي يجسد ويعبر عن حالة جمالية راقية. فالخامة البسيطة الدقيقة لهذه العيدان جذبتني واستطعت بكل دقة وصبر أن أحول هذه القطع والوحدات الصغيرة، إلى قطعة فنية تحكي عن معلم ديني وتراثي قديم لهذه البلدة والمنطقة ككل.
وكون كنيسة مار جرجس هي المجسم الأول الذي أنفذه، كان الاهتمام بأدق التفاصيل، خاصة أن قباب الكنيسة تحتاج لتعامل مختلف ودقيق مع الخامة، لإخراج مجسم بمقياس صحيح أقرب للواقع.
ويسرد ميسم المراحل المختلفة التي مر بها هذا العمل المكون من الاسياخ الخشبية، قائلا "لم اكن لاستطيع تنفيذه لولا القدرة الالهية، ووجود زوجتي وبناتي بجواري ساعدني كثيرا في إنهائه بفترة لا تتعدى ال 4 أشهر. وهي تعتبر فترة زمنية قصيرة نسبيا كونها المرة الاولى لي".
وتابع: "فبعدما حددت ماهية المجسم، بدأت بتصوير الكنيسة من كل الجوانب ورسمها، وأخذ مقياس الرسم الدقيقة، فالتأمل والرؤية البصرية للمعلم، عملية ضرورية لعملية التنفيذ لكل ما تحويه من زخرفة وتفاصيل أكثر وتخلق ارتباطا مباشرا بيني وبين المجسم. ثم بدأت في تجهيز الخامات التي تعتمد بشكل أساسي على العيدان الخشبية، وبعض الورق الملون أو الأقمشة التي تدخل في تفاصيل المجسم من أبواب ونوافذ، ومادة لاصقة، فضلا عن وجود أدوات الرسم الأساسية لإخراج العمل بشكل أقرب للواقع. فتم استعمال حوالى 1500 عودا وكمية لا بأس بها من المواد اللاصقة ومادة السيليكون لتثبيتها وتثبيت الإضاءة داخل المجسم، والقياسات هي 1/100 من القياسات الأساسية للكنيسة أي 1.10 * 0.8 * 0.4
يواجه كل منا العديد من المواقف والمراحل المختلفة في الحياة، بعض منها يكون إيجابيا ويجلب لنا الفرح والسعادة، في حين أن البعض الآخر يحمل في طياته تحديات أكثر، بل ويكون صعبا أيضا، وقد يترك ندوبا أبدية في النفوس".
رغم كل ما تعرض له المسيحيون في العراق من وحشية وذبح وتنكيل على يد داعش إلا أن إيمانهم كان أقوى من كل الشر الذي تعرضوا له ولم تستطع هذه القوة أن تستولي على روحهم الحلوة المملوءة من الروح القدس بل كل هذا زادهم إيمانا وقوة ومثابرة للاستمرار ومتابعة حياتهم متسلحين بتعاليم المسيح أينما كانوا وفي أي بلد لجأوا إليه.
* تحقيق - ألين سمعان
تعليقات: