أثار عنوان مقال الباحث ماجد جابر في «الأخبار» (19 كانون الثاني 2021) بعنوان «طلاب لبنان الطشّ عالمياً» ردود فعل شاجبة على مواقع التواصل الاجتماعي، عدّته ظالماً بحق الطلاب اللبنانيين. الكاتب استند في صياغة خلاصته على نتائج مشاركة تلامذة المدارس الرسمية والخاصة في الاختبار الدولي «اتجاهات في دراسة الرياضيات والعلوم الدولية» (TIMSS) لعام 2019، حيث حلّ لبنان في المرتبة 38 في العلوم، وفي المرتبة الأخيرة عربياً من بين 10 دول عربية مشاركة، المرتبة 32 دولياً في الرياضيات، والرابعة عربياً.
إذا حصرنا مقياس كفاءة التحصيل العلمي بهذه الاختبارات لا ينبغي الاستناد إلى نتائج 2019 فحسب، إذ أن نتائج اختبارات الأعوام السابقة لم تكن أفضل. وفي الكتيب الذي أصدره المركز التربوي للبحوث والانماء في شباط 2018 (المدرسة في لبنان: أرقام ومؤشرات)، ورد أن لبنان يسجل معدلات متدنية في الفهم الكتابي للغتين الفرنسية والانكليزية وفي الرياضيات والعلوم، نسبة إلى متوسط نتائج برنامج تقييم التلامذة الدولي (PISA). وعلى صعيد المراتب، «احتل لبنان المرتبة الثالثة في الرياضيات والسابعة بين الدول العربية المشاركة في اختبارات (TIMSS) للصف الثامن أساسي عام 2015، لكن متوسطاته كانت أدنى من المتوسطات العالمية».
اختبارات TIMSS تعدّها الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي، وهي، بحسب تعريفها لنفسها، منظمة دولية مستقلة، يشارك فيها أكثر من 60 دولة، وتضم مؤسسات بحثية وطنية ووكالات بحثية حكومية وباحثين وتسعى إلى فهم التعليم وتحسينه في أنحاء العالم (أكثر من 100 نظام تعليمي). وتتيح الدراسات المقارنة التي تجريها الجمعية للأنظمة التعليمية فهماً أفضل للسياسات والممارسات التي تعزز التقدم التعليمي. الهدف من هذه الدراسات فهم الروابط بين المناهج المعلنة في السياسات التربوية، والمناهج المُطبقة، والنتائج المُحصلة فعلياً من الطلاب. وقد أصدرت الجمعية دليلاً إرشادياً لتعريف التلامذة والاساتذة بآلية إختبارات TIMSS، وتحسين كفاءة أداء الأساتذة في طرائق التعليم نحو المستويات العقلية العليا (التطبيق والإستدلال) التي تتضمنها الأسئلة، وتدريبهم على صياغة الأسئلة طبقاً لهذه المفاهيم، وتحضير الأساتذة لتدريب الطلاب على أسئلة الإختبارات الدولية، ومحاكاتها في بناء أسئلة جديدة وفق منهجية الإختبارات. يعني ذلك أن نتائج الإختبارات ليست معياراً لمستوى التلامذة بمقدار ما هي معيار شرطي لقياس كفاءة النظام التعليمي. والمعيار الشرطي هنا ناتج من أن من يتبّع الدليل الإرشادي يمكنه تحقيق نتائج جيدة، ومن لا يتحضر تكون نتائجه متدنية. وبالتالي، من الخطأ المنهجي اعتبار نتائج الاختبار معياراً للقول إن طلاب لبنان «الطش» عالمياً، في حين أن عدداً كبيراً من الطلاب اللبنانيين ينتسبون إلى الجامعات العالمية ويحققون نتائج جيدة.
هل هذا يعني أن نظامنا التعليمي بخير؟
أورد التقرير الوطني بشأن تطور التربية في لبنان المقدم إلى مكتب التربية الدولي في جنيف عام 2001 نتائج عدد من الدراسات، نذكر منها:
- دراسة قياس التحصيل العلمي (بين 1994 و1998) التي أظهرت تبايناً في نوعية التعليم على المستويات كافة، خصوصاً في القطاع الرسمي والأرياف، وضعفاً في اكتساب المهارات الحياتية وفي المستويات العقلية العليا.
- دراسة واقع المدرسة الرسمية والإدارة التربوية (1998) التي بيّنت أن أكثر من نصف مديري المدارس الرسمية يضطرون لتغيير جداول توزيع الساعات مرات عدة خلال العام الدراسي بسبب قرارات نقل المدرسين.
- دراسة التوجيه الدراسي والمهني (1999) التي كشفت أن 58% من طلاب صف الثاني الثانوي لا يملكون معلومات عن التخصصات الدراسية التي ينوون الالتحاق بها، وأن هناك تبايناً بين اختيارات الطلاب واحتياجات سوق العمل، وأن 65% اختاروا مهناً تشكل فقط 20% من حاجات سوق العمل.
أما كتيب المركز التربوي فيظهر تطور نظام التعليم العام ما قبل الجامعي في لبنان منذ العام الدراسي 2011 - 2012 ولغاية 2016 - 2017، ويسجل تزايداً في عدد تلامذة لبنان بشكل مطرد، نظراً لازدياد عدد التلامذة السوريين الذين يتابعون المناهج اللبنانية من جهة، ولتمديد المرحلة ما قبل الابتدائية من سنتين إلى ثلاث، مع قبول التلامذة ابتداءً من عمر 3 سنوات من جهة ثانية. واستقطبت المدارس الخاصة نحو ثلثي التلامذة، رغم أن عدد المدارس الرسمية يفوق الخاصة، وتبين أن أكثر من 6% من المدارس لا يتجاوز عدد تلامذتها الـ 100 ، وأن ثلث الصفوف يزيد عدد تلامذتها على 30 ، وأن معدل التلامذة للمعلم الفعلي الواحد في القطاع الرسمي تدنى مقابل ارتفاعه في القطاع الخاص غير المجاني بنسبة من 9 إلى 21، وأن نسبة الأساتذة المتعاقدين تجاوزت 33%، كما أن ثلثي الأساتذة يحملون شهادة جامعية غير تربوية. أما على مستوى تحصيل المواد التعليمية بين الفروع الأربعة لشهادة الثانوية العامة، فتسجل كل الفروع مستويات تحصيل متدنية في اللغة العربية والتربية المدنية وعلوم الحياة.
النظام التعليمي ليس بخير بدليل الهوة بين سياسة النهوض التربوي والنتائج المحققة
في المقابل، أقرت الحكومة اللبنانية عام 1994 خطة النهوض التربوي على أن تنجز خلال 9 سنوات، وتمثلت بصياغة أهداف موحَّدة وموحِدة للتعليم، أساسها تعزيز التعليم الرسمي وضمان حرية التعليم الخاص، وانبثقت عنها عام 1995 خطة هيكلية التعليم والمناهج الجديدة التي طُبّقت تدريجياً وأنجزت عام 2000 - 2001. وانبثقت عن الخطة مناهج جديدة عام 1997. ومن النقاط التي شملتها أطر السياسة التربوية: تطوير مفهوم التقييم التربوي في الامتحانات وفقاً لمتطلبات التعليم العالي وسوق العمل، ورفع كفاءة التعليم من خلال تطوير برامج إعداد المعلمين وتدريبهم. وأنيط بالمركز التربوي وضع مشاريع الخطط التربوية، دراسة المناهج، انتاج الكتب، إقرار نمط أسئلة الامتحانات الرسمية بالتعاون مع دائرة الامتحانات في وزارة التربية. واعتُبرت هذه الامتحانات مؤشراً أساسياً لتقييم فعالية النظام التربوي.
من هنا تتضح الهوة الكبيرة بين الأهداف التي وضعتها سياسة النهوض التربوي وبين النتائج المحققة، والتي يقر بها المركز نفسه في الكتيب. ولنتمكن من فهم أسباب هذه الإختلالات ينبغي العودة إلى النظام التربوي نفسه والتوقف عند نقاط عدة:
- على صعيد الامتحانات الرسمية نشهد نسب نجاح عالية، أي أننا في مواجهة تناقض فاضح بين نسب نجاح تشير إلى نظام تربوي مثالي، وبين مؤشرات تبين العكس باعتراف القيمين على التربية. إن تنميط المسابقات الرسمية ترك نتائجه السلبية حتى على المواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وصارت كل العملية التدريسية تنحصر في إعداد التلميذ وتأهيله للنجاح في الامتحانات من خلال شكل محدد للإجابة. والتعديل الذي جرى على برامج التعليم الثانوي لم يُناقش مع حلقة التعليم الجامعي، ولم يُقرّ بما يعزز الاعداد الجامعي كما ورد في خطة النهوض التربوي.
- في نظام تربوي تجد المدرسة الرسمية نفسها في منافسة غير متكافئة مع المدارس الخاصة وهي بمعظمها تجارية وطائفية، تصبح الامتحانات الرسمية أكثر من ضرورية لتكون معياراً موحداً لكل التلامذة في القطاعين الرسمي والخاص، ولتمثل المجال الذي تمارس فيه الدولة سيادتها في التربية. مع ذلك، تخلت الدولة عن سيادتها عندما سمحت لمدارس خاصة باعتماد برامج البكالوريا غير اللبنانية واعترفت بنتائجها. وفي هذا السياق ينبغي الإبقاء على الامتحانات الرسمية مع إعادة نظر في كل سياقها. كما أن ضمان حرية التعليم الخاص سمح للمدارس الخاصة بتحويل الكتاب المدرسي سلعة تجارية وبلجوء بعضها الى فرض كتب أجنبية تتضمن نصوصاً لا تلتزم بقانون مقاطعة العدو الاسرائيلي. علماً أن توحيد الكتاب المدرسي لا ينبغي أن ينحصر في كتابي التاريخ والتربية، إنما يفترض أن يشمل كل المواد لتوحيد الاعداد والتكوين، واخراجه من بازار الاستغلال المادي للاهل. وتكوين المواطن لا يمكن أن يتحقق في ظل تعليم ديني يُفترض أن يكون جزءاً من مادة الثقافة العامة، ويتولى تدريسها أساتذة من متخرجي كلية التربية في اختصاص الفلسفة والانسانيات.
- إن مخرجات المرحلة الثانوية محددة بأربعة مسارات، ومن غير المفهوم عدم وجود مسارات لها علاقة بالابداع الفني من موسيقى ورسم ومسرح وغناء وبالمهارات الرياضية المختلفة، وكأن لا مكان في النشاط البشري للابداع الفني والرياضي، في حين أن قسماً من التلامذة يتميزون بقدرات كامنة في هذه المجالات، ويضطرون لاختيار مسارات لا تتلاءم مع رغباتهم. وعلى مستوى البرامج، يوجد عدد من المواد التي تقوم على التلقين والحفظ، مثل التاريخ والجغرافيا والتربية، بطريقة معزولة عن الحياة. أما مادة اللغة العربية فتشكل عموماً أزمة عند التلامذة، والسبب لا يكمن في صعوبة القواعد والاعراب بمقدار النظرة الاجتماعية السائدة تجاه اللغة العربية. لذا نحن بحاجة الى إعادة النظر بمحتوى المادة وكيفية توزيعه على السنوات الدراسية.
- يشير تقرير المركز التربوي الى أن ثلثي الاساتذة يحملون شهادة جامعية غير تربوية. والملفت، أنه في معظم المدارس الخاصة، وبنسبة أقل في الرسمية، يتخطى عدد التلامذة في الصف الثلاثين، ما يشكل ضغطاً كبيراً على الاستاذ لأنه لن يتمكن خلال الحصة من الاحاطة بكل التلامذة، ومتابعتهم فردياً، خصوصاً في ظل المنهجية الجديدة التي تفترض استيعاب التلميذ في الصف للمادة بما لا يحمله أعباءً إضافية للعمل في المنزل. وفي كثير من المدارس الخاصة، يصل عدد التلامذة في الصف في المرحلة المتوسطة إلى 40، مع حمل تدريسي على الاستاذ يتعدى 25 ساعة أسبوعياً، ما يخفض من كفاءة العملية التدريسية. إلى ذلك، يتعرض الجسم التعليمي في القطاع الخاص لأبشع استغلال من أصحاب المدارس، في ظل ضعف التنظيم النقابي ما يطلق يد أصحاب المدارس، والضحية هم التلامذة والأساتذة.
- إن الادارة التربوية موزعة بين وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والانماء، وفي الموقعين يُعيّن موظفون وفق معايير الزبائنية، والامر يتعلق بالقطاع التربوي حيث الكفاءة ينبغي أن تترافق مع قيم النزاهة والاخلاق والدفاع عن القطاع العام والمدرسة الرسمية. عدم احترام هذه المعايير سيفضي طبعاً الى النتائج الواردة أعلاه، ناهيك عن التنازع على الصلاحيات والادوار والمغانم ضمن المعادلات الطائفية في توزيع المواقع وتعيين اللجان.
إن تفاقم الوضع على الصعيد التربوي هو جزء من الانهيار العام الذي أصاب، ولا يزال، كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية. والتسارع في حصول هذا الانهيار يرتبط كما بتآمر السلطة السياسية على التعليم الرسمي، كذلك بانكفاء أصحاب المصلحة في الدفاع عنه، بحيث انحصر همّ الأدوات النقابية للأساتذة في المطالب المادية.
في ضوء ما تقدم، يعاني النظام التربوي (الذي لم نتناول فيه المسارين المهني والجامعي) من خلل بنيوي، يعكس من جهة نمط الاقتصاد الريعي التابع، وتتمثل وظيفته بإعداد الكادرات وحملة الشهادات بهدف تصديرها إلى الخارج، وتنعكس فيه من جهة أخرى البنية الطائفية للنظام، في ظل غياب أي رؤية تنموية تجعله ملبياً للاحتياجات الاجتماعية، وبالتالي، لا يمكن تجاوز هذا الخلل بمعزل عن مشروع سياسي وطني يعيد صياغة وظيفة لبنان ككيان سياسي بعد تراجع وتلاشي الوظيفة التاريخية التي أنشىء من أجلها. وفي ظل الانهيار الذي نشهده، لا أمل حالياً بإمكان تحقيق أي إصلاحات على مستوى النظام التربوي، إنما لا بد على الأقل من تحفيز النقاش وتبادل وجهات النظر على أمل صياغة مسودة تشكل مادة بحث وعنواناً للنضال في ميدان التربية والتعليم بين أصحاب المصلحة في بقاء التعليم الرسمي وتطويره، الى جانب الملفات الاخرى المطروحة على بساط التشريح.
*أستاذ في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية
موضوع ذات صلة: طلاب لبنان «الطشّ» عالمياً!
تعليقات: