في كتابه الجديد «تعب» الصادر حديثاً عن دار عالم الفكر، يتقدم إلينا بلال شرارة بكامل أناقة وجعه وحزنه وتمرّده ، يغوص في أعماق الحالات الإنسانية ، يقارب القضايا الوطنية برؤية ثاقبة ، ويجعل أرواحنا وعقولنا تتأهب إلى أقصى درجات الشغف والحذر ، مشكّلاً ، على حدّ تعبير الدكتور محمد توفيق أبو علي ،" لقاء الذوب الحميم بين علوم التاريخ والفلسفة والأخلاق والاجتماع ، فضلاً عن الأنواع الأدبية من المقالة إلى القصة القصيرة ، وأدب السيرة ، وأدب الرحلات " .
بلال شرارة صاحب التجارب الغنيّة في الكتابة والسياسة والإدارة ، وحامل الهموم الثقافية على امتداد مساحة الوطن ، يؤمن بالتنوّع إيمانه بالحرية والديمقراطية إلى أبعد الحدود ، ومع ذلك لا يدّعي بأنه خارج دائرة الخطأ:
" لسنا أنبياء ، ربما نعطي الآخرين ذرائع وأسباباً أحياناً ، لكن ذلك لا يعطيهم سلطة القرار لتوقيع عقوبة إعدام بحقّنا " .
آمن بلال وظلّ ثابتاً على إيمانه بأن من حقّنا أن يكون لنا وطن حقيقيّ ، وأن تكون فلسطين لأهلها وأن نرتوي من مياهنا العربية:" أنا الذي يحلم بوطن غير مسروق وغير منهوب وغير محكوم إلى ولد ، والذي يحلم بفلسطين طاهرة من غير دنس ، وببرّ الشام الذي لا أحتاج فيه إلى جواز مرور ، أنا الذي أحب العطش إلى غرفة ماء الليطاني والبردوني والفرات " .
وبصفته رئيساً للحركة الثقافية في لبنان ، ومناضلاً ثقافيّاً منذ فترة طويلة على جميع جبهات الحبر واللون ، فلقد كان من الأوائل الذين فتحوا الأبواب لجيل الشباب وكان في طليعة المدافعين عنهم مؤمناً بتداول السلطة الثقافية والإبداعية :
" مهما تعبت سوف لن أتعب من أن أجد نصّاً رائعاً أملأ به روحي ، وأصير أتنفسّ حتى ، أنا لا أقصد نصوص الشعراء السابقين .بل أقصد الشعراء الشباب الذين يجب أن نتداول السلطة الشعرية معهم " .
أحد وجوه تعب بلال مغادرة الأصدقاء له ، لكنه يبرع في التعبير عن هذا التعب بأسلوب يجمع بين الوجدان والفكاهة وحُسن التصوير :" ذاكرتي تبكي كثيراً ، أنا غادرني أصدقاء
لي ، تمتّد علاقتي بهم لنحو ستين عاماً . الآن يفصلنا عن غنوة بحار كتيرة ، ولكن ضحكتها بالنسبة لي لا تزال معلّقة على التوتة ، ونحن عدنا نلعب الغميضة ونركض في صحارى أرواحنا لولا التين الذي يمسك أقدارنا لعلّنا نكتب أغنياتنا التي لم تزل عالقة في سقف حلوقنا" .
عشق هذا الرجل للحرية ، ودفاعه عنها ، جَعَلاه يعيشها رغم ضغط العمل والحياة :" أنا تعبت ، لو أملك مالاً لأزيد مساحة الوادي ، لأمدّ مساحة جديدة لحرية عصافيري ، مساحة إضافية لأفق عيوني " .
عميقة علاقة بلال بالطبيعة ، يؤنْسنُها ، وهذا ما يساعده في استعمال المجاز بأفضل حالاته :
" عندما كنت في عزّ شبابي ولا أزال اتكىء على غيمة ، لم أنتبه أنها تتأهب للمطر ، ولولا الأشجار التي تلقّتني بكلتا يديها لكنت تحطمت تماماً ، يومها كان عصفور دوريّ يمرّ في
المكان ، ضحك مني كيف فكرت أساساً أن أصعد سلّم الأمنيات إلى أعلى قمة من
جبل مارون " .
وهو في حالات تعبه الشديد ، لا يجد سوى الأم ملاذاً آمناً : " أنا أموت من التعب ، سأذهب في الصباح القادم لأرتاح إلى كفّ ودعاء أمي " .
ودائماً لدى بلال مشكلة مع الوقت ، ومردّ ذلك إلى أنه كثير الإنشغال سواءٌ في عمله أميناً للشؤون الخارجية في مجلس النواب، أو في عمله الثقافي بصفته رئيساً للحركة الثقافية في لبنان ، أو بدوره الدائم في الوقوف إلى جانب اتحاد الكتاب اللبنانيين ليبقى مؤسسةً لا يصبيها التصدّع ، أو في إسهامه في تفعيل نقابة الفنانين عبر علاقاته ومن خلال حرصه الشديد على توظيف هذه العلاقات في خدمة العمل المؤسساتي :" الآن أشتهي لو أجد وقتاً لأكتب عمري السابق" .
علاقته بالوقت تنسحب تلقائيّاً على علاقته بالعمر الذي يتسلّل ويأخذ من طريق الكتابة:
"أودّ لو لا يغلبني العمر قبل أن أختم النص الأخير وأغمر أطراف أنامل العتمة " .
في مخزون بلال النضالي والثقافي الكثير الكثير من الذكريات التي تجعله يشعر بأنه نهر عتيق ، هذا النهر هو الذي كان شريكاً في المقاومة :
" أنا مثل نهر الليطاني عتيق ، وفي ذمتي الكثير من الذكريات والدموع والإنتظار ، أوراق الذكريات المرّة التي رمى بها الخاسرون ، حكايات المحبّين ، الغرقى ، أشجار الصفصاف التي اغتسلت في رحلة الوقت من النبع إلى المجرى . أنا مثل النهر العتيق ،شربة ماء العطش المجبولة بعرق الجبين ، الآن مرآة وجوهنا التي وقفت أمام لحظة الماء . الآن هو النهر على عادته عبر كل وقت مشى مع المقاومين في ليلهم ونهارهم منذ مطلع الشمس في سابق الزمن ، قاتل الانتداب والاحتلال إلى أن كان الجنوب " .
بلال الذي عاشت فلسطين في روحه ودمه وحبره ، كان من الطبيعي أن يتألم لما حصل في صبرا وشاتيلا :
" حفلات الإعدام الجماعية التي كانت تنفّذها العصابات والميليشيات الموالية لإسرائيل وتحت حراستها في مخيّمي صبرا وشاتيلا " .
إلا أن هذا الألم يزيده إصراراً على التعلق بفلسطين التي يرى أنه سيعود إليها رغم أن الأدوية هدّت كيانه المتهالك :
" أنا الرجل ، المتْعب المنهك الذي نخرت جسده الأدوية ، سأعود إلى فلسطين ولو مشياً على عكازي " .
هذا العشق لفلسطين يتجذّر في شخصيته وبالتأكيد في كتاباته ، لذا نراه يصرخ بمرارة :" كيف ترانا نقبل أن نستبدل نابلس بالنبطية ، والخليل بصيدا ، ورام الله بصور ، والضفة الشرقية بالغربية ، والقدس بأبو ديس أو عمّان ، وبعض النقب ببعض سيناء ، وغزة بالعريش ، والجليل ببنت جبيل ، وبعض الجولان ببعض الأردن ، وفلسطين بكل تراب الدنيا ، والحلم الفلسطيني بكابوس ؟"
التعب الذي رافق " بلال" سنوات طوالاً لم يمنعه من الحب ، ولو أن حبّه بقي موزّعاً بين حبيبته الأنثى وحبيبته الأهم الحركة الثقافية :
أنا أعرف أنك تغارين من الحركة الثقافية التي لا تنام قليلاً مثلي ، وتقوم في " فرق الصبح" متأهبة لتجرَّ الصباح من يده إلى الشمس ، ولتغسل وجه الأشجار بالزقزقة " . " أعرف ذلك ، الآن ، ولكن عمري أصبح كثيراً كشجرة عتيقة تقيم نقطة علام لترى على ما عداها . غداً في فصل الصحو الذي سيأتي بعد عام سأكتب رسالتين : " واحدة لك والأخرى لك أيضاً . في الأولى الكثير من الحب ، وفي الثانية أنني بتّ احتاج إلى الراحة والعنب ربما لأنني لا أملك أسناناً لأمضغ التفاح " .
كم هي جميلة الاستعارات التي استخدمها في كلامه عن الحركة الثقافية " تنام قليلاً ، وتقوم متأهبة لتجرّ الصباح من يده إلى الشمس ولتغسل وجه الأشجار بالزقزقة !! "
هذا ، ويبقى أهم حالات التعب وأعمقها عند بلال موضوع أحد قادة المقاومة أدهم خنجر :" وكان جبل الشيخ، حيث يرتفع الجولان بالنسبة لنا ، الملاذ الذي لجأ إليه البطل الذي يقيم في وجداننا
( أدهم خنجر) الذي كان أحد قادة مقاومة شعبنا ضد الاحتلال ( الانتداب) الفرنسي بعد الحرب الكونية الثانية ، والذي وقع في قبضة الاحتلال بعد أن حاصروا منزل زعيم الجبل سلطان باشا الأطرش ، وهو ما استدعاه لإطلاق الثورة الكبرى" .
ويبدو جليّاً حرص بلال شرارة على مراكمة خبراته التي لا بدّ من أن تؤتي ثمارها ولو بعد حين :" بصراحة أنا أجرّ نفسي بيدي لأتعلم أكثّر وأزيد من خبرتي التي ربما تلزم ذات يوم في عالمنا العربي حيث "الديمقراطية والسلام المفقود" كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل " .
بلال المتشظّي المبعثر رغم تماسكه، القلق الذي لا يرضخ لنظامٍ ما في الحياة ،لا يجد سوى الورق حضناً دافئاً:
" ليس عندي روتين محدّد ، مكان إقامة ، تابوت معدنيّ ، ثياب مكويّة على الكاتالوغ، جُلّ ما في الأمر أني أكوي الصباح لأرتديه إلى المساء ، و في المساء يكون أرهقني النهار فأرتمي فوق الورق جسداً يحاور جذعه" .
وبلال الذي يشعر بأنه" ينضب كأنهار لبنان في تموز ، ويودّ أن يسقي براعم الآخرين بحكمة عمره، سرعان ما يعود و جدانه إلى الاشتعال كما تعود ذاكرته:
"الدكتور شمران علّمني أن أكون نفسى وأن أخدم شعبي" و في جولاته في دول العالم سواء منها ما كان ضمن العمل البرلماني أو المؤتمرات أو الدورات التدريبية أو الزيارات الثقافية، في هذه الجولات يبدو لي أن أفضل وجوه إحدى زياراته لأميركا كانت السهرة في منزل الدكتور صاحب ذهب التى كانت خليطاً بين الشعر والطعام بين خبز التعليقات و ملح المبنى و المعنى ".
وببراعة ورؤية عميقة يصف النهارات والليالي غامزاً من قناة سوء الإدارة لدى المسؤولين :
" النهارات قصيرة مثل يدي فكيف أمدّ أناملي إلى شمسها ؟ الليالي طويلة مثل أيدي المسؤولين ، وهم لذلك يسرقون فضة القمر وسراج فرسه " .
على ضوء التعب المرّ ، والاعتراف / الشهادة/ المشاهدات/ وعلى ضوء تجارب غنية خاضها بلال شرارة من جولات حافلة بالمواقف والوجع والنضال الثقافي في عدد كبير من دول العالم ، إلى حركة لا تهدأ داخل الوطن ، زارعاً في كل قضاء من لبنان كثيراً من حبق روحه ومن نعناع قلبه ، ومن شمس فكره ، ومن جرأة قلمه ، على ضوء ذلك ، يصل إلى الفصل الأشدّ حساسيةً :
" فراغ" ، حيث " لا شمس تقطع كبد السماء في الفراغ ، لا قمر يقع رغيفاً من سلطة الفقراء ، لا بيدر لنحاس الشرق ، لا سيف يمانيّاً لشبهة الحرّاس الذين يحرسون ثغور المدينة ، لا شيء في الفراغ ، لا سلال عنب لموسم السهر الطويل ، لا حكايا رشيقة لعجائز كانون .
في الفراغ فراغ فقط . ظلام يابس ، نورٌ معلّق على مسمار في جدار مثقوب بشظايا كثيرة ، نجم غسل شعر رأسه بماء نبع الهوى " .
الدكتور باسم عباس - رئيس المنطقة التربوية في الجنوب
الكاتب بلال شرارة والدكتور باسم عباس
تعليقات: