لعلّ الأسوأ في مسألة المساعدات الدولية للبنان، هو أنّ الطاقم السياسي، بعدما جفَّت كل موارده في الداخل والخارج، أخذ «يحتال» على المساعدات الإنسانية ليموِّل نفسَه وفساده. وهذا الأمر بدأ يثير الاستياء في بعض الدول المانحة. وثمة معلومات عن تحذيرات أرسلتها هذه الدول، في هذا الشأن، إلى المسؤولين في لبنان والبنك الدولي على حدّ سواء.
حتى اليوم، يتخذ صندوق النقد الدولي موقفاً حازماً تجاه الطبقة الحاكمة في لبنان. فهو يعرف أنّها لا تريد الإصلاح وأنّها ستتصدّى له حتى الرمق الأخير. وهو يدرك أنّ قوى السلطة تلجأ إلى محاولات الإلتفاف للحصول على برنامج تمويل يغذّي منظومة الفساد ويكرِّسها.
ولذلك، يوقف الصندوق مفاوضاته مع الحكومة اللبنانية. والأرجح أنّه لن يفرج عن برنامجه إلّا بعد سقوط هذه المنظومة ومجيء حكومة إصلاحية فعلاً، وتحظى بتغطية القوى الدولية المانحة، وفي مقدّمها واشنطن.
في المرحلة الأولى من الحصار الدولي، العامين الماضيين، تنكَّرت منظومة السلطة حتى لمتطلبات الإصلاح الفرنسية بعد مؤتمر «سيدر». فقد كانت مطمئنة إلى أنّها قوية وقادرة على الصمود، لأنّ المال كان موجوداً في المصرف المركزي والخزينة.
وعندما اصطدمت برفض الفرنسيين والخليجيين تحريك أي نوع من المساعدات، بضغط أميركي، راهنت على أنّ «غيمة» العقوبات الأميركية ستمرُّ سريعاً، و»بلا أضرار»، فقرّرت الصمود وتمرير الوقت.
ولكن، فشلت منظومة السلطة في رهانها. واكتشفت أنّ لا أفق لمساعدات خارجية بلا إصلاح. ومع وصول احتياطات مصرف لبنان إلى الحضيض، أخذت تبحث في الاستيلاء على أموال المساعدات الإنسانية، الآتية عبر البنك الدولي والمؤسسات الأخرى المانحة.
فقد وردت إلى واشنطن وباريس وعواصم دولٍ مانحة أخرى معلومات عن تلاعبٍ وانعدام الشفافية في عملية توزيع العديد من المساعدات العينية والنقدية، بما فيها تلك المتعلقة بمواجهة «الكورونا»، علماً أنّ الجهات التي تتولّى إدارة هذه المساعدات هي في الإجمال مؤسسات وهيئات وجمعيات غير حكومية.
والشكوى المرفوعة في هذا المجال لا تقتصر على الغموض في تحديد أين تذهب المساعدات، ولا على الطريقة المعتمدة لإعداد لوائح الذين تشملهم، بل أيضاً هناك شكوك في أنّ بعض المساعدات النقدية، التي هي في الأساس بالدولار الأميركي أو اليورو، تصل إلى الناس بالليرة اللبنانية ووفقاً لتسعيرة مزاجية للدولار، يمكن أن تبدأ بـ1500 ليرة أو تصل إلى 3900 ليرة أو يتمّ اختيار أي تسعيرة أخرى.
لكن ما أوصل الإستياء إلى ذروته، هو قرض البنك الدولي الأخير، بقيمة 246 مليون دولار لدعم شبكة الأمان الاجتماعي في مواجهة الفقر و»الكورونا». ووفق تقدير البنك، يفترض أن تحصل 147 ألف عائلة لبنانية على الدعم، أي ما يقارب الـ786 ألف شخص، خلال العام 2021.
ولكن، في بيروت، تقرَّر اقتطاع مبلغ 46 مليوناً من القرض تحت شعار توزيعه لدعم مجالات التعليم وبعض الحاجات الاجتماعية ولضرورات إدارة القرض، فيما الـ200 مليون الباقية تمرّ على مصرف لبنان فيسلِّمها بالليرة اللبنانية، على دولار 6240 ليرة، رغبة منه في الاستفادة من بقية المبلغ لدعم السلع الحيوية، تعويضاً للتراجع الشديد في احتياطاته المخصَّصة للدعم.
وفوق ذلك، تلفّ الغموض طريقة إعداد اللوائح بالعائلات التي تستحق الحصول على المساعدات، وسط تضارب بين الهيئات والجهات والأجهزة المعنية، ما يثير الشكوك في وجود خلل سيعتري العملية بكاملها.
رائحة هذه الفضيحة وصلت إلى عواصم الدول المانحة المعنية، ولاسيما واشنطن وباريس. وعُلِم أنّ أصداء الإستياء وصلت إلى البنك الدولي باعتباره المرجع المسؤول عن القرض، والذي يفترض أن يتعرّض للمساءلة.
فهذا القرض ليس من أموال البنك الخاصة، بل تمّ تحصيله بمساهماتٍ من الدول المانحة. وهذه الدول تطبّق القوانين، وتحرص على معرفة كيف تمّ التصرّف بأموالها، وهل تمّ إهدارها كما جرى في لبنان على مدى سنوات وما زال؟
وفوق ذلك، ما مسؤولية المعنيين داخل البنك الدولي في تأمين الشفافية المطلوبة في بيروت وسلامة التوزيع؟ وما مبرِّر سماح البنك الدولي للطبقة السياسية في لبنان باستغلال هذا القرض أو سواه تحت عناوين وبذرائع مختلقة؟ وهل الهدف هو إتاحة الفرصة لهذه الطبقة كي تحصل على المال وتصمد في وجه العقوبات الدولية المفروضة على لبنان؟
ووفق المطلعين، لوَّحت جهات مانحة عدّة بوقف أي مساعدة للبنان، بما في ذلك المساعدات الإنسانية، ما لم تتوافر فيها الشفافية، وما لم يقم البنك الدولي بدوره بشكل سليم.
في هذه الأثناء، يتحدث البعض عن استثمار منظومة الفساد لجائحة «كورونا»، من أدوية وأدوات وقائية وعلاجية وفحوص، بملايين الدولارات لتمويل نفسها، ما يستدعي السؤال: هل صحيح أنّ المستفيدين ساهموا في توسيع دائرة الوباء، كي تجتاج البلد وتبلغ الآلاف يومياً، فيما كانوا قادرين على حصرها شهوراً أخرى في حدود بضع عشرات؟
وفي الخلاصة، يمكن القول إنّ المجتمع الدولي بات يُحْكِم الطوق أكثر فأكثر على منظومة الفساد اللبنانية، وهي نفسها تقترب من الجوع بعدما أكلت كل شيء وكل الناس. وفي المرحلة المقبلة، سيكون مرجحاً انهيار هذه المنظومة جوعاً، لأنّ إغاثتها تحت العناوين الإنسانية ممنوعة.
تعليقات: