في زحمة الخطابات الداعية إلى تحويل الاقتصاد اللبناني من الريع إلى الإنتاج، تأتي «التسريبة» من القصر الحكومي بأن نقاشاً يدور حالياً حول خيار رفع الدعم عن القطاع الزراعي، «ابتداء من مطلع الشهر المقبل»، على ما يقول رئيس تجمع المزارعين والفلاحين إبراهيم الترشيشي. ما عدا ذلك، لا يملك الترشيشي ولا المزارعون أي تفاصيل. لكن يبدو أن هذه التسريبة ــــ فيما لو باتت واقعاً ــــ ستعيد المزارعين إلى الشوارع. هذا ما «وعد» به هؤلاء لمواجهة قرار محتمل يقضي بشطب القطاع الزراعي من لوائح الدعم. فهل فعلاً اتخذ المعنيون القرار بالترشيد من باب القطاع الزراعي؟
قبل أن يفوت الأوان، من المفيد الإشارة إلى أن الحديث عن رفع الدعم عن القطاع الزراعي لم يأت من فراغ، إذ سبق لوزير الاقتصاد والتجارة، راوول نعمه، أن طالب بذلك في أيلول الماضي، على اعتبار أن «الاستمرار بدعم السلع المتعلقة بالإنتاج الحيواني والزراعي يشكل هدراً للمال العام (...) وخصوصاً أن الدعم لم يترافق مع انخفاض أسعار تلك المنتجات». يومها، ربح نعمه جزءاً من مطالباته، إثر إعادة النظر في «سلّة الدعم»، إذ طال التشحيل بعض البنود العائدة للقطاع الزراعي، وبقي الدعم المرصود للقطاع عند حدود عشرة ملايين دولار شهرياً على أساس سعر صرف المنصة الإلكترونية (3900 ليرة)، أو ما يعادل 110 ملايين دولار سنوياً، على ما يشير وزير الزراعة، عباس مرتضى. ويغطي هذا المبلغ ثلاثة أنواع رئيسية من المستلزمات والمعدات الزراعية، هي البذور والأسمدة والأدوية الزراعية.
اليوم، تستعيد بعض الجهات الحديث عن ترشيد الدعم... من باب القطاع الزراعي، وهو ما دفع بتجمّع المزارعين إلى التحذير من مغبة الإقدام على رفع الدعم «لما يترتب على هذا الأمر من تداعيات كارثية على المزارعين والمستهلكين»، بحسب البيان الصادر عنهم الأسبوع الماضي. ولئن لا تأكيد ولا نفي من المعنيين حول مدى جدية هذه النقاشات، إلا أن ثمة مؤشرين بارزين إلى ذلك الاحتمال: الأول دعوة وزير الزراعة إلى عدم المسّ بالقطاع الزراعي لناحية رفع الدعم، وهي بمثابة اعتراف بطبيعة تلك النقاشات، والثاني «اتصال أحد مستشاري رئيس الحكومة الذي طمأن إلى موقف رئيس الحكومة لإبقاء الدعم، وإنما الأمر متروك لمجلس النواب الذي سيقرر هو ما ستكون عليه خطة الدعم»، على ما يشير الترشيشي.
بغض النظر عما سيكون عليه الترشيد وحصة القطاع الزراعي منه، ماذا يعني عملياً إخراج المستلزمات والمعدات الزراعية من عباءة الدعم؟
في هذا الشق بالذات، يورد مرتضى جملة «ارتدادات كارثية»، في مقدمها «تهديد الأمن الغذائي للمواطنين من باب ترك المزارعين لأراضيهم لكونهم لن يقبلوا بأن ينتجوا على أساس سعر صرفٍ محرر»، وهو ما ينعكس تالياً على المستهلكين. وقبل الوصول إلى تلك الكارثة، يشير مرتضى إلى أن الأزمة الاقتصادية دفعت بالكثير من المواطنين إلى الزراعة، فتم استصلاح ما يقرب من 5500 دونم من الأراضي لزراعتها. وهذا «مؤشر قوة يجب الحفاظ عليه»، على ما يقول مرتضى. أما الآخر الذي يفترض أن ينظر إليه الباحثون عن الترشيد، فهو مساهمة قطاع الزراعة في تدعيم الاقتصاد. ففي مقابل الـ 110 ملايين دولار التي حصّلها القطاع من الدعم العام الماضي «بلغت عائدات صادرات لبنان 717 مليون دولار من منتجات زراعية وصناعة غذائية»، وهو ما يسهم في إدخال دولارات إلى البلاد. لذلك، يدعو مرتضى إلى الحفاظ على هذا القطاع من باب الـ 1%، التي هي حصة الدعم، خوفاً من «سقوط آخر أعمدة القطاع الإنتاجي»، الذي يشغّل نحو 40% من الناس.
في مقابل دعم القطاع بـ 110 ملايين دولار وصلت عائدات صادراته إلى 717 مليون دولار
لكن، في مقابل تلك المطالبات التي هي حق للمزارعين طالما أن الدعم «شغّال» على الجبهات الأخرى، ثمة حاجة ملحّة لتعديل آليات هذا الدعم. فرغم ضآلة المبلغ المرصود لقطاع الزراعة مقارنة بمبالغ قطاعات أخرى، إلا أن ذلك لا يلغي أن فكرة الدعم قائمة ولا تزال على دعم التجار والمزارعين الكبار، لا الصغار. وإن كانت وزارة الزراعة قد استدركت هذا الأمر أخيراً من خلال «غرفة عمليات الشكاوى»، إلا أن ذلك لا يحلّ المشكلة الأساس: تحكّم التجار والمستوردين وكبار المزارعين بتلك المعدات وأسعارها، وهو ما ينسحب تالياً على قطاعات أخرى تنسف اليوم فكرة الدعم القائمة حالياً. المطلوب هنا ليس إخراج القطاع الزراعي من الدعم، وإنما تعديل آليات هذا الدعم كي تصل إلى المزارعين جميعاً.
تعليقات: