يوسف غزاوي: في معنى المعاصَرة، أو المعاصِر «Le contemporain»


نسمع ونقرأ الكثير عن كلمة «مُعاصِر» أو «مُعاصَرة» في الكتب والمقالات والأحاديث الشفهيّة لمثقّفين وباحثين ونقّاد وطلّاب جامعيّين. فماذا تعني هذه الكلمة، أو المفردة، أو المصطلح، بالمعنى العام والخاصّ (الفنون التشكيليّة)، وهل تنطبق أم تختلف عمّا نعرفه عنها؟ هل المعاصَرة تنحصر في زمننا هذا، أو يُمكننا نسبتها إلى عصور وفترات مضت عبر التاريخ، كمفهوم الحداثة مثلاً التي نسبها البعض إلى التجديد في كلّ العصور، قبل أن ترسو عنواناً ومصطلحاً فكريّاً وفلسفيّاً وعلميّاً وأكاديميّاً في القاموس اللغوي في منتصف القرن الماضي؟ سنحاول في هذه المقالة الإجابة عنها إذا استطعنا إلى ذلك سبيلاً. إنّ الإجابة عن ذلك ستكون متوّجة بإشكاليّة المسلّم به من آراء وكتابات.

بحثتُ كثيراً في الكتب التي تُعنَى بفنون المعاصرة، ولا سيّما الفرنسيّة منها، فلم أعثر على تعريف مختلف وموسّع لهذا المُصطلح، حيث اتفق الجميع على ضمّ الفنون التي جاءت في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ميدان المعاصرة، وكأنّ الأمرَ مفروغ منه في ما يتعلّق بتلك الفترة الزمنيّة التي أتت بها التيّارات الفنّيّة.

يربط القاموس الفرنسيّ، والقواميس الأجنبيّة، عبارة «معاصر» بالزمن Le tempsالذي نعيش فيه من دون أيّة إضافة أخرى، ويربطونها بالجديد. ويُعرّف الباحث «جان لوي برادل» الفن المعاصر بقوله: «الفن المعاصر، مضاعِفاً التناقضات، يجتاز كلّ معيار، كلّ إكراه، مُبحراً في المبالغات والإثارات، واضعاً على بساط البحث الأصليّ والحقيقيّ.يهتمّ بالأنواع الفنّيّة، بالدعامات التي تقوم عليها الأعمال الفنّيّة، وبالفضاء». يجد هذا الباحث الفنّيّ تعابيرَ في الفنون عند الفنان «دان فلافان» كما في تصاوير «بارسيلو»، وفي تجهيزات الفيديو عند الكوريّ «نام جون بيك»، وفي مضغوطات الفرنسيّ «سيزار» كما في لباس «إيساي مياك»، وفي نتاجات فن الأرض أو في التفاهة الفظيعة لأشخاص من ألياف الزجاج ل»ديان هانسون»، كما في الهندسات المعماريّة ل»تاداو آندو» أو «جون نوفيل». ويقول الباحث إنّ كتابه يستعرض فنانين مشهورين ك»دوبوفيه»، «سولاج»، «بوللوك»، «باسكيا»… يسمح الكتاب أيضاً باكتشاف فنانين أقلّ شهرة، لكنّهم حاليّون Trèsactuels.

إذاً، هو يضع التجارب الفنّيّة الجديدة بخاماتها وطرحها في حضن الفنون المعاصرة من دون أيّ تعريف أو برمجة أو تحديد أو تميّز لهذا المصطلح سوى «الجديد» و»الحاضر».

الباحث الفنّيّ «سيرج لوموان»، بدوره، في كتابه «الفنّ الحديث والمعاصر» لا يختلف في طرحه عن برادل بالتركيز على الخامات الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين، كالتصوير الفوتوغرافيّ والفيديو التي أنتجت معطيات جديدة، ليُنهي تعريفه بكتابه بأنّه شاهد على الخلق المعاصر.

نأتي إلى كتاب الباحث «جيورجيو أغامبين»Giorgio Agamben بعنوان «ماذا تعني المعاصرة؟»، علّنا نجد فيه ما نبحث عنه، ويُشفي غليلنا. هو كُتّيب صغير لكنّه مشحون بالمعاني بلغة فلسفيّة أكثر تعقيداً من المعاصرة ذاتها. يطلّ من خلال هذا الكتاب على الفلسفة والتاريخ والقديم والماضي والدين والظلمة…

في بداية محاضرته يطرح الباحث السؤال التالي: «كيف يُمكن أن نكون معاصرين، وقبل أيّ شيء ماذا يعني أن نكون معاصرين؟». ليُضيف: «من هذه المحاضرة ستكون لدينا الفرصة لقراءة نصوص لمؤلّفين بعيدين عن عصرنا بقرون عدّة، وآخرين أكثر حداثة؛ بل أكثر وأكثر حداثة. في كلّ الحالات ستكون الأهمّيّة بنجاحنا، بطريقة ما، بتبيان معاصرة هذه النصوص. إنّ «زمن» محاضرتنا هو المعاصرة»….

التعيين الأوّل المؤقّت لمحاضرته تأتي من نيتشه. يذكر المفكّر والفيلسوف رولان بارت في الكولّيج الفرنسيّة حين لخّص الأمر بهذه العبارات: «المعاصرة هي غير الحالي l>inactuel». حتى أنّ فريديريك نيتشه عام 1874 عندما كان شابّاً قدّم التعريف ذاته بقوله: «المعاصرة هي غير الحاليّ، هذا الباعث الذي نحن فيه».

المعاصَرة هي علاقة مفردة مع زمنها الخاصّ، الذي ننتمي إليه، آخذين كلّ أبعاده؛ هي بالتحديد العلاقة مع الزمن الذي ننتمي إليه من خلال تغيّر الطور Le déphasage (الارتباك) والمفارقة التاريخيّة L>anachronisme. الذين يتوافقون أو يتطابقون كثيراً مع المرحلة، يتلاءمون بالكامل معها في كلّ نقاطها ومفارزها، ليسوا معاصرين لأنّه لهذه الأسباب نفسها لا يستطيعون رؤيتها. لا يستطيعون تثبيت نظرتهم التي يرمونها عليها.

إنّ معاصرة نيتشه تجاه الحاضر، حسب الباحث، هي في تعارض معيّن، هي نوع من تغيّر الطور. إنّ الإنسان الذي ينتمي حقيقة إلى زمنه، المُعاصر الحقيقيّ، هو الذي لا يتطابق بالكامل معه، ولا ينتمي إلى ادّعاءاته، ويُمكن تعريفه، بهذا المعنى، كغير حاليّ Inactuel (لا ينتمي إلى الزمن الحاليّ)؛ ولكن بالتحديد لهذا السبب، من التباعد واللاتزامن، هو غير قادر كالآخرين على إدراك وإمساك زمنه.

هذا اللاتطابق، هذا اللاتزامن، لا يعني بشكل طبيعيّ أنّ المعاصر يعيش في زمن آخر، وليس حنيناً يُمكن التعرّف إليه في الروايات والقصص القديمة وكتابات القدماء أكثر من المدينة أو الزمن الذي عاشت فيه. إنّ رجلاً ذكيّاً يُمكنه أن يُكرّر زمنه أو مرحلته، لكنّه يعرف في كلّ حال أنّه ينتمي بشكل نهائيّ إلى هذا الزمن. إنّه يعرف عدم إمكانيّة الهرب منه.

الشاعر – المعاصر – يجب عليه أن يركّز نظره على زمنه. لكن ماذا يرى، ذاك الذي يرى زمنه، البسمة المجنونة لزمنه؟ أريد الآن اقتراح تعريف ثانٍ للمعاصرة: المعاصر هو الذي يُثبّت النظر على زمنه ليُدرك منه العتمة وليس الأنوار. كلّ الأزمنة هي معتمة للذين يُبرهنون المعاصرة. فالمعاصر، إذاً، هو الذي يعرف رؤية هذه العتمة… لكن ما الذي تعني «رؤية الظلمات»، «إدراك العتمة»؟

الإجابة الأولى تلمّح إلى علم وظائف أعصاب الرؤية Neurophysiologie. ماذا يحصل إذا وُجِدنا في وسط خاصٍّ مليءٍ بالضوء، أو عندما نقفل عيوننا؟ ما هي العتمة التي نراها إذاً؟ يشرح علماء الأعصاب غياب الضوء الذي يُفعّل سلسلة من الخلايا لمحيط الشبكيّة تُسمّى «إيقاف – خلايا» off- cells. .

عندما تدخل بنشاط، وتُنتج هذه العيّنة الخاصّة للرؤية التي نسمّيها الظلمة… يعني هذا، وصولاً إلى أطروحتنا حول ظلمة المعاصرة، أنّ ما تُدركه هذه الظلمة ليس شكلاً من الجمود أو القصور أو الاستكانة: يفترض هذا الشيء نشاطاً وقدرة خاصّتين، اللذين يقومان بشلّ الأضواء بغية كشف وإظهار الظلمات، العتمة الخاصّة، التي لا يُمكن فصلها عن نورها.

ما نقصده بالمعاصر هو الذي لا يترك نفسَه أعمًى من خلال أضواء القرن، ويصل إلى إمساك جزء العتمة من خلالها، عتمتها الأليمة.

بقولنا هذا الشيء، لا ندّعي أنّنا أجبنا كلّيّاً عن سؤالنا. لماذا يهمّنا فعل نجاحنا بإدراك الظلمات التي تنبثق من المرحلة؟

المعاصر هو الذي يخترق ظلمة زمنه كقضيّة تنظر إليه، ولا تتوقّف عن استجوابه؛ شيء، هو أكثر من أيّ ضوء، هو بشكل مباشر وفرديّ يدور حوله. المعاصر هو الذي يستقبل بشكل ممتلئ حزمة الظلمات الآتية من زمنه.

أن تُدرك ظلمة الحاضر، الضوء الذي يبحث عنّا، ولا يستطيعه، هذا ما يكونه المعاصر. لهذا السبب نجد أنّ المعاصرين نادرون. وبشكل موازٍ، ما ينشر كوننا معاصرين، وقبل أيّ شيء، هي قضيّة شجاعة: لأنّ هذا يعني أن نكون قادرين ليس فقط على تثبيت النظر على ظلمة المرحلة، لكن أيضاً أن نُدرك في هذه الظلمة ضوءاً يتّجه ناحيتنا، ويبتعد إلى أقصى درجة.

لهذا السبب نجد أنّ الحاضر الذي يدرك المعاصرة لديه الفقرات المُنهكة. في زمننا، الحاضر ليس في الواقع الأبعد فقط: لا يستطيع ملاقاتنا في أيّة حالة.. لهذا السبب، نكون معاصرين، بالرّغم من كلّ شيء..

الأزياء والموضة Le modeمثال جيّد لهذه التجربة الخاصّة للزمن الذي نسمّيه المعاصر. الذي يُحدّد الأزياء هو ما يُدخل في الزمن توقّفاً خاصّاً، يُقسمه بناء لحاليّته أو لاحاليّته، بناء للكائن أو توقّف كونه على الموضة أو الطريقة..

هذه العلاقة الخاصّة بالماضي لها أيضاً وجه آخر. واقعاً، تتسجّل المعاصرة في الحاضر بالإشارة إليها كشيء قديم مهجور. وهذا الشيء وحده الذي يُلاحظ في الأشياء الجديدة الأكثر حداثة، الشواهد أو إمضاء القديم يُمكنه أن يكون معاصراً. القديم يعني القرب من المصدر L>origine. لكنّ المصدر لا يقع فقط في ماضٍ متسلسل زمنيّاً: هو معاصر بكونه تاريخيّاً، ولا يتوقّف عن التحرّك من خلاله كجنين يتابع العيش في أنسجة الجسم حديث النعمة للنضج، والطفل في الحياة النفسيّة للإنسان البالغ.

إنّ مؤرّخي الفنّ والأدب يعلمون بوجود موعد سرّيّ بين القديم والحديث، ليس فقط لأنّ الأشكال الأكثر قدماً تبدو أنّها تمارس على الحاضر سحراً خاصّاً، ولكن خاصّة لأنّ مفتاح الحديث مخبّأ في العهد القديم وما قبل التاريخ. وهكذا، نجد أنّ العالم القديم يعود في النهاية، ليجد نفسه متّجهاً نحو بداياته؛ الطليعيّ L>avant- garde، الذي تاه في الزمن، يبحث عن البدائيّ والقديم (هذه صفات ما بعد الحداثيّ!). بهذا المعنى نستطيع القول إنّ باب العبور نحو الجاهز يمتلك بالضرورة شكل علم الآثار. هذا الشيء لا يقودنا نحو ماضٍ متناهٍ، بل إلى ما نستطيع في أيّة حالة عيشه في الجاهز. السكن أو الإقامة في اللامعيش، هو مختطف نحو الأصل من دون إمكانيّة الوصول إليه أبداً. الحاضر ليس أكثر من جزء من اللامعيش في كلّ المعيش، وما يمنع العبور نحو الحاضر هو بالتحديد معظم ما لا نستطيع أن ننجح بالعيش فيه. إنّ الانتباه إلى هذا اللامعيش هو حياة المعاصر أو المعاصرة. وأن تكون معاصراً يعني، بهذا المعنى، العودة إلى حاضر لم نعش فيه أبداً.

المعاصر ليس فقط الذي يُحاصِر صعوبة الوصول إلى الضوء، مُدركاً ظلمة الحاضر؛ بل هو الذي، من خلال تقسيم الزمن، يكون على قياس تحويله ووضعه بعلاقة مع أزمنة أخرى، وقراءة التاريخ بطريقة مُبتكرة، و»قراءته» بوظيفة ضرورة إبعاده عن التعسّف، بل يأتي من متطلّبات لا يُمكننا الإجابة عنها. يكون هذا كما لو أنّ هذا الضوء اللامرئيّ الذي ترمي ظلمة الحاضر ظلالها على الماضي، في حين أنّ الأخير، المُصاب بهذه الشبكة من الظلال، يربح قدرة الإجابة عن ظلمات اللحظة. هذا الشيء تحدّث عنه المفكّر والفيلسوف «ميشال فوكو « Michel Foucault في تحقيقاته التاريخيّة عن الماضي ليعكسها على الحاضر. وما فعله أيضاً «والتر بنجامين» Walter Benjamin عندما كتب أنّ الشاهد التاريخيّ الذي تكشفه صور الماضي تُشير إلى أنّها لا تستطيع أن تكون مقروءة إلا في لحظة مُعيّنة من تاريخها. المعاصرة ليست فقط في قرننا و»الآن» بل أيضاً في صورها في نصوص ووثائق الماضي التي سيتوقّف عليها نجاح أو فشل ما نقوله.

ماذا يعني المعاصر إذاً؟ المعاصر، هو الذي يستقبل بوجه ممتلئ حزمة الظلمات التي تظهر في زمنها..

* د. يوسف غزاوي (أستاذ جامعيّ، فنان تشكيليّ وباحث)

تعليقات: