لي صديقٌ ثري، كان يشغل وظيفةً مرموقة، وقد أُحيل منذُ فترةٍ على التقاعد، فاشترى قطعة أرضٍ فى إحدى المناطق الجبليّة، حيث شيِّد عليها فيللا كبيرة ، وفي أحد الأيام كنتُ برفقته فاصطحبني الى تلك المنطقة ليُريني مشروع منزله الصيفي الجديد، من خلال مشاهداتنا لأقسام وغرف الفيللا لفت إنتباهي كثرة الحمّامات التي ناهز عددها السبع، فسألته لماذا كل هذه الحمّامات، فابتسم وقال لقد أردتها هكذا إنتقاماً من حمّام الكورة، فأدهشني جوابه وزاد من فضولي، فقلت له ماذا تعني بحمّام الكورة؟!
فضحك مُطولاً وسردَ لي هذه القصّة قائلاً:
«
أنا أنحدرُ من عائلةٍ فقيرة كان عددُ أفرادها تسعة أولاد إضافةٍ للوالدين ، حيث كان أبي يعمل كفلاحٍ في بساتين الزيتون المشهورة بها منطقة الكوره ، ومن ضمن الأجر الذي كان يتلقاه والدي كان هناك منزل صغير يأوينا وليس به إلّا حمّام واحد، فكنّا صباحاّ نصطف أمامه مُنتظرين دورنا للدخول إليه لقضاء حاجتنا ، ومراراًعديدة كنت أقضيها مُجبراً خارجه ، فانتقاماً وثأراً منه أكثرتُ من بناء مثيلاته .
»
فضحكت بدوري وحدّثت نفسي لقد فات عن بالِ صديقي وأغفل من أنّ عبرةً قيِّمة وحكمةً لا تُقدّر بمالٍ إنبثقتا من قصّته هذه . ألم يعِ صاحبنا بأنّ ذلك البيت المتواضع بحمّامه قد خرّج أطباء وظباط ومُهندسين؟
ألم يُدرك بأنّ كل الأموال المُكدّسة لديه والتي هي فائض حاجة لا يُمكن لها أن تُربّي وتُعلِّم وتُنشىء وتقوم بأودِ هكذا عائلة تربوياً وأدبيّاً، ثقافيّاّ ومهنيّاّ، عدا الإحتياجات والمُتطلبات ، بينما ذلك الأب وتلك الأم وفي ذلك البيت البسيط قاما بعرقِ جبينهما وتعبهما وجهدهما المقرون بالمحبة بكلِ ما يلزم لمعيشة وإعالة عائلتهما على أكمل وجه؟
ألا يزال شعور الأمان والإطمئنان والسلام مُتغلغلاً في ذاكرته عكس ما نعيشه اليوم في هذا الزمن الرديء؟
أنسيّ صاحبنا الدفء والخير والبركة وضحكات السعادة التي كانت تتعالى من ذلك المنزل الفقير الذي كان يضم إحدى عشر نفساً بعكس فيللته التى نادراً ما يزورها مع زوجته وإبنه الوحيد والتي غالباً ما تكون مهجورة لا حياة فيها تسكُنها الوحدة ويلسعها القرّ والحرّ في الصيف والشتاء؟
الحقيقة إنّ السبع حمّامات ذات تصاميم فخمة يوليها المُصممون أفضل الإبتكارات والزخرفات ولكنها لا يُمكن لها مُنافسة حمّام صاحبنا إنسانيّاً، فليس كل ما يلمع ذهباً، وللذهب ثمن والحكمة لا ثمن لها، والقناعة هي الطريق الوحيدة للسعادة الحقيقيّة.
الكاتب طعّان حبشي
تعليقات: