"بدون إحراج السرفيس بـ2500". بضع كلمات صفّت على ورقة كرتون بخط اليد وعلّقت على زجاج سيارة أجرة من باب إعلام من يريدون استقلالها وتنبيههم الى ارتفاع سعر "التوصيلة". لعلّ السائق الشاب أراد من خلال هذه الطريقة قطع الطريق على الركاب الذين يريدون البحث في الاسباب لتجنب "وجعة الراس"، تاركاً لهم خيار الركوب او عدمه. السائق الجديد "عَ الخط" توصل الى قراره هذا بعدما لم تعد "توفي معو" التعرفة القديمة مع ارتفاع سعر البنزين. لم يلتزم حتى بالسعر الذي تم تحديده اخيرا بألفي ليرة اقتناعا منه بان من يعمل على الخط و"كأنه ياكل من لحمه الحي، وحتى لو تقاضى 3 آلاف يبقى مغبونا لانو كل شي بهالبلد بالزايد".
السائق يعرف ان التعرفة الجديدة يمكن ان تُبعد الركاب من طريقه او ربما تبعده وسيارته من بعض المناطق إلاّ ان سعر صفيحة البنزين الذي يرتفع يوماً عن يوم لم يترك له خيارا آخر. لذلك كما حدّد الأجرة فقد اعتمد تحديد الوجهة التي لا تخرج عن إطار بيروت الإدارية.
مشروعه هذا لم يأتِ من عبث، وهو الذي درسه من كافة جوانبه وقلبه في الايجاب والسلب. فهو وإن كان سيخسر بعض محطات الوقود التي تؤمن عروض خاصة للتاكسيات في الزواريب والأحياء الداخلية بعيدا من عيون الرقابة، إلاّ انه يعرف تماماً ان الركاب في العاصمة لن يسألوا عن "خمسمئة بالزايد" وكثيراً ما يحدث أن يصطاد رجال اعمال من على ابواب الفنادق والمؤسسات فضلوا ركن سياراتهم وحرق أموالهم بدلاً من حرق اعصابهم في زحمة السير. هذا من دون أن ينسى أن يسقط من حساباته أعباء التصليح اذا ما سلك شوارع نظيفة خالية من الحفر التي تغتني بها الازقة وشوارع الضواحي، بالاضافة الى توفيره جزءاً من مصروف البنزين الذي تضاعفه العجقات الخانقة والاشغال المتربصة على مفارق الطرقات الرئيسية في مناطق كثيرة خارج العاصمة. "شو الله جابرني حط بنزين من جيبتي"، الشوارع المحرم دخولها عليه كسائق تاكسي فهي تلك التي تشهد إزدحام سير بشكل دائم، اما محطات الوقود فلا يقصد سوى التي تضع اعلاناً خاصاً يقول "خاص بالعمومي" فيستطيع عندها توفير ولو القليل من ثمن وقود سيارته.
الارتفاع في أسعار البنزين وبغض النظر عن كم السلبيات الذي أمطر به حياة الكثيرين، إلا انه يسجل له نقاط ايجابية في احد وجوهه ولعل اهمها عودة الرقم 11 من عائلة الرينو او المعروف بسيارة "رينو 11" وهي الأكثر شعبية ويملكها كل الناس الى الاستعمال. في هذه التسمية لمن لا يعرف، دلالة على الرجلين التي عاد الناس الى استعمالها للسير لفترات طويلة بغية التوفير من جهة وإحياء للرياضة من جهة. وكأن الكل بسحر ساحر تحوّلوا من دعاة الراحة الى مناصري الصحة والبيئة. هذا وقد استغل عدد من الشبان الازمة فتهافتوا على شراء السيارات الجديدة خصوصاً تلك التي يمكن شراؤها بالتقسيط الممل والمريح، بعدما أفرغت إيجارات السرفيسات جيوبهم فوجدوا في التقسيط خير وسيلة للهروب من هذا العبء الشهري الذي يضاهي بأضعاف القسط ومعه مصروف البنزين الشهري. وهم بذلك وجدوا سبيلاً للراحة من نوبات التوتر التي قد تصيبهم من حكايا السرفيس ومشاكل الشوفير والناس والتي تضاف الى رصيد معاناتهم شاؤوا أم أبوا. بل أكثر من ذلك هم على قناعة بأنه مهما كان حجم الصعوبات التي سيصادفونها، إلاّ انها تبقى أقل وطأة من تعب يكابدونه مع بعض السائقين الباحثين عن أول فرصة للتوفير مثلما يبحثون عن الركاب ويتنافسون في سباق مع الثواني لالتقاط الزبائن من على بعد عشرات الامتار. فتراهم يطلقون العنان لأبواق سياراتهم منادين على الزبون المصوب نحو الطريق من الزاروب البعيد، او تلك الفتاة المنتظرة للباص او ذلك الشاب الذي يهم في فتح باب سيارته. يلحون عليهم بالصعود فيلوح الشاب بمفتاح سيارته لإعلامهم بعدم نيته استقلال سيارة اجرة، اما الفتاة فغالباً ما تضطر الى التراجع باتجاه الرصيف او واجهة احد المحال لتجنّب الإحراج.
كما اعاد ارتفاع الاسعار العز للنقل العام أو "جحش الدولة"، الذي عاد ليستقطب الطلاب والموظفين والمواطنين من كل الفئات والاعمار الذين اختاروه بديلاً من سيارات التاكسي بعدما باتت تعرفتها تقضم المعاش الشهري، ومنهم من اشترى بطاقات اشتراك في الباصات الحمراء الكبيرة بداعي التوفير.
في احيان كثيرة تتعطل "أنتينات" الشوفير كما كل المواطنين بسبب الضغوط التي يعيش، فينسى او يتوه في هذا الطريق او ذاك، ويكون حظه كبيراً ان صودف ووقع بين أيدي "راكب آدمي"، أما لو حصل ان كان هذا "الراكب من إياهم "فتكون العاقبة كيلاً من الشتائم والسباب التي ينهال بها على مجتمع السائقين من دون استثناء اي منهم. وفي كثير من الاحيان يكون التعطيل مفتعلاً ومقصوداً بحيث يعمد السائق الى التناسي واحالة حاسة سمعه مثلاً على التقاعد عله بذلك يستطيع قنص "شوية زيادة" ويبرّر عدم رده على الزبون السائل لحاجة ما او حتى ذلك المطالب بما يستحق له من بقية الأجرة. كثيرون منهم مثلا يلجأون الى سياسة التطنيش وخصوصاً اذا ما كان المتبقي من الاجرة من فئة الخمسمئة على اعتبار ان الزبون لن يتنازل ويسأل عنها او ربما يخجل من السؤال.
سوزان، فتاة جامعية في العشرين من عمرها تستقل التاكسي أو السرفيس كما هو متعارف عليه في بيروت لتصل الى جامعتها، وكعادتها كل صباح استقلت سيارة الاجرة مع سائق خميسني، لم يضع على زجاج السيارة ولا على "التابلو" أي إعلان يشير الى التعرفة الجديدة. أعطته سوزان ألفي ليرة و"هوي طنّش ع الباقي"، وقبل أن تصل بقليل سألته له "عم ما عطيتني الخمسمية" من باب تذكيره ولكنه لم يجبها. أعتقدت سوزان عندها أن سمع السائق خفيف فوخزت ساعده بإصبعها وقالت له بصوت مرتفع قليلاً "عم ما رديتلي"، ولكن "لا جواب" وكأنه في لحظات فقد حواسه كلها. هي لا تملك سوى أجرة الطريق ذهاباً وإياباً، أمسكت ذراعه وهزّتها وقالت "عم" فردّ بعد لحظات "مين لكشني" فقالت له سوزان "الخمسمية، ما رديتلي هييّ" فأعطاها إياها وهو يتمتم "العما عم تحارجني على 500".
مع ارتفاع تعرفة النقل أصبحت علاقة السائق والراكب كعلاقة "توم بـ جيري" والشاطر هو من يوقع بالآخر. العلاقة التي لا تدوم سوى دقائق معدودة هي حجم الوقت الذي يستغرقه توصيل الراكب الى المكان الذي يقصده، تحكمها خمسمائة ليرة لبنانية.وكما يتحين بعض السائقين الفرصة لـ"قنص" الركاب، يسلك بعض هؤلاء الاخيرين سبل كثيرة لقنص الشوفير او حتى استنزافه بعد التحجج بعدم توافر فكة ما يضطر الاخير الى مسامحته بالاجرة. وهنا تحضر قصة ذلك الشاب الذي امتهن هذه الحيلة، وفي كل مرة كان يستقل السرفيس كان يعمد الى ابراز العملة الخضراء من فئة المئة دولار وهو ضمنا يعرف ان الشوفير لن يستطيع صرفها، فسامحه الاخير في المرة الأولى. وبعد فترة صودف أن استقل السيارة نفسها، وكانت المسامحة الي ان طفح الكيل في المرة الثالثة، فجال الشوفير على أكثر من محطة وقود بغية صرف المئة دولار بعدما تيقن من ان الامر مدبر وليس محض صدفة وبعدما حصل على الفكّة استوفى أجرة المرات الثلاث ولم يجرؤ الراكب على السؤال.
ولحكاية عبوة المياه التي تحولت الى عبوة بنزين "رزيرف" حكاية اخرى. فكما يعيش المياوم يوما بيوم، يعيش سائقو السرفيس ساعة بساعة لعدم قدرة الكثيرين منهم على ايفاء ثمن صفيحة بنزين كاملة، فيلجأون الى التحايل على جيوبهم البيضاء بقطرات بنزين يجمعونها من حفنة ليرات يجمعونها كلما مرت ساعة او أقل او أكثر. هم اعتادوا هذه الطريقة وكذلك الركاب، الذين ما إن تسير بهم السيارة حتى تتوقف، فيسارع صاحبها الى طمأنتهم بان الحل سريع وما هي الا دقائق حتى يعاود المسير.
اما علاء فقد وجد نفسه ذات صباح "جيري" عندما ركب مع السائق "توم" الذي اصطاده من على الرصيف كي يوصله الى عمله. دفع له علاء فور ركوبه في السيارة. لم تقطع سوى بضعة امتار حتى اصبحت تتراقص في وسط الطريق و"تنتّع" كأنها تشهق أنفاسها الاخيرة، لقد فرغت من الوقود. بسرعة هدّأ السائق من روع علاء وقال له "ما تعتل هم معبي قنينة"، ولكن علاء لم ينتظره ليملأ السيارة بالبنزين الذي وضعه في القنينة البلاستكية واستقل سيارة تاكسي أخرى وأعطى سائقها ما استرده من السائق الاول، ولكنه رفضها وقال له "ما بروحو هودي مخزقين" فأيقن علاء أن السائق الاول استبدل ما أعطاه إياها بعملة ورقية ممزقة ولحسن حظه أن السائق الاخير توقف عند محطة الوقود على طريقه فأوقف علاء سيارة التاكسي التي يستقلها ونزل اليه واخذ منه الالفي ليرة التي استبدلها وعاد وعلى وجهه ابتسامة خبث لأنه "طلع اشطر من السواق".
يوقف سيارته أمامها ويسألها "لوين رايحة؟" تجيبه "ع الحمرا"، يبتسم ويقول لها قبل أن تعلو ضحكته "ايه روحي بس ما تتأخري". يقهقه عالياً ويتمتم "ع الحمرا، مين بدو ياخدا؟ خليها تنطر سمك بالمي". يقطع بضعة أمتار يضغط على زمور سيارته ويسأل "طالع ريّس؟" يجيبه "ساسين" يرده السائق "سيرفيسين" يجيبه الشاب بنبرة غاضبة "شو شايفني قاعد عبنك" يرفع قدمه عن فرامل السيارة ويقول "إيه خليك منقوع هون بالشمس بلكي بتذوب قبل ما توصل". هذا السائق الثلاثيني، نموذج لعدد كبير من سائقي التاكسي في لبنان فاذا لم يركب معه الراكب يشتمه ومعه الدولة وأميركا وكل الدول، ليصل به الحال الى لعن حياته وحظه اذا لم يصدف وان استقل احد سيارته لدرجة ان الراكب الوحيد الموجود معه يحس بعقدة ذنب ويستهل في الدعاء بان يرزقه الله حتى لا يصل منه اليه طرطوشة قد تصيبه في شخصه وكرامته. ومن الحياة المشؤومة ككل يبدأ يفند الصعوبات والمعوقات التي تبدأ باسعار البنزين ولا تنتهي عند طلبات الزوجة والاولاد والطبابة والمدارس، فيضطر الراكب ومعه الركاب الاخرين الى مساندته وتتحول السيارة الممغلقة الي ميدان مفتوح على التحاليل والنقاشات والبراهين. كلهم يتشاركون الهموم عينها التي تتسع دائرتها مع بداية عرض كل منهم لفصول حياته التي لا يصعب الدخول الي تفاصيلها من ذلك الطفل الذي يحتاج الى علبتي حليب اسبوعيا بتكلفة كذا والابنة المريضة وعلاجها، الام التي تعمل ليل نهار للمساعدة في إعالة الاسرة وغيرها من القصص المأساوية المتنقلة والمتشابهة في كل السرفيسات وصولاً الى الفانات التي تكبر هموم ركابها مع كبر حجمها واتساعها وصغر إمكاناتهم وقدراتهم. ولترطيب الاجواء السوداوية يبادر الشوفير المتسبب في هذه السوداوية منذ البداية الى تغيير وجهة الحديث وتلطيش "الفتيات" واستبدال "النق" بالغزل "شو هل كنزة يا عنزة" أو "شو هل جسد يا أسد".
لعنة المحروقات
ارتفاع بدل المواصلات في لبنان، هو احدى لعنات الـ2006، اذ انه ليس بالامر الجديد فبعد عدوان تموز على لبنان ارتفعت تعرفة جميع وسائل النقل فيه أن كان داخل العاصمة بيروت أم في المناطق. وارتفعت تعرفة التاكسي من ألف ليرة لبنانية الى 1500 ليرة ومن ثم الآن الى ألفي ليرة وذلك مع بلوغ سعر صفيحة البنزين عتبة الـ40 ألف ليرة (سعر مرجح للارتفاع في كل لحظة)، وكذلك ارتفعت تعرفة الفان من 500 ليرة الى 750 ليرة بعد الحرب والان الى ألف ليرة. حتى خطوط سير الباصات التي تربط العاصمة بيروت بالمناطق اللبنانية، ارتفعت تعرفتها بنسبة 50% بعد حرب تموز ومن ثم تضاعفت الان بعد ارتفاع سعر البنزين.من" شتورا الى بعلبك او ما يعرف بخط البقاع ارتفعت تعرفة الفان لتصل الى 4 آلاف" بعدما كانت ثلاثة آلاف، وكذلك الحال بالنسبة الي تلك المتوجهة نحو صيدا وطرابلس، فيما بقي الاستمتاع بصوت واغاني نعيم الشيخ خدمة مجانية لا يدفع الركاب مقابلها. على هذه الخطوط خصوصا البعيدة منها "ما اوله شرط آخره نور" وكثيراً ما يشترط الركاب، في حال تعدى عددهم الثلاثة، الدفع وفق التعرفة القديمة.
ولعل فئة الطلاب هي الاكثر تؤثراً من رفع هذه التعرفة خصوصاً منهم أولئك الذي يضطرون الي قصد جامعاتهم من مناطق بعيدة او اولئك الذين يتنقلون بشكل اسبوعي بين بيروت ومدنهم وقراهم حيث ما زال يقيم الاهل. الطلاب هم الفئة الوحيدة التي لا مدخول لديها سوى المصروف الذي يتقاضونه من معيليهم أو احدى الوظائف التي يعملون بها بدوام جزئي والتي ترتب عليهم في هذه الايام عبء التنقل بالسرفيس. عبء اضطرهم الى تغيير نمط حياتهم او حتى التقنين في زيارة اهلهم او ربما استقلال الباص الكبير وان كان سيستنزف ساعات اكثر، لتوفير ما لديهم والاستفادة منه في تأمين مصاريف الحياة اليومية التي ما زالت الى تصاعد.
تعليقات: