لم تشهد البلاد طوال السنوات الأربعين الماضية هذا المستوى من المهاجرين
ليست الهجرة ظاهرة جديدة على المجتمع اللبناني، لا بل يمكن القول أن تصدير العقول والكفاءات، والرهان على تحويلاتها الواردة بالعملة الصعبة، مثّلا تاريخيّاً جزءاً لا يتجزّأ من النموذج الاقتصادي اللبناني. لكنّ الأرقام الأخيرة لنسب المهاجرين من العاملين في القطاعات الأكثر حساسيّة تعكس ما هو أخطر بكثير من هذا الاستنزاف التقليدي. إذ يبدو أنّ الانهيار الاقتصادي أطلق عنان موجة هروب كبيرة في أوساط هذه القطاعات، وخصوصاً في صفوف أصحاب المهارات والشهادات الذين تتسابق دول العالم على استقطابهم. وبذلك يصبح من الواضح أن أخطر آثار الانهيار لن تقتصر على المؤشرات الماليّة والاقتصاديّة على المدى القصير، بل ستصل حد فقدان لبنان لنخبته على المدى الطويل، أي الفئة الأكثر كفاءة وإنتاجيّة والأكثر قدرة على تقديم القيمة المضافة، اقتصاديّاً وإجتماعيّاً.
التقرير الأخير الذي نشره موقع "بلوم إنفست" يلخّص بعض الأرقام التي تعكس حجم "موجة الهجرة الجديدة"، كما سمّاها، في عدّة قطاعات ومهن، من الهندسة إلى الطب والتمريض وأساتذة الجامعات وموظفي المصارف. أما أخطر ما يعرضه التقرير، فهو النسب التي تدل على أن موجة الهجرة الحاليّة هي الأكبر منذ سبعينات القرن الماضي، أي منذ موجة الهجرة الكبيرة التي حصلت في أعقاب اندلاع الحرب الأهليّة.
قطاع الهندسة
في القطاع الهندسة، يستند التقرير إلى أرقام نقابة المهندسين التي تشير إلى أن متوسّط عدد المهندسين الذي يطلبون إفادات تخولهم العمل في الخارج، ارتفع ليتراوح ما بين الخمسة والستة مهندسين يوميّاً. مع العلم أن الكثير من الدول التي يهاجر إليها المهندسون لا تشترط وجود هذه الإفادة من النقابة أساساً، ما يعني أن عدد المهندسين الذين يتخذون قرار الهجرة يوميّاً قد يتجاوز ضعف هذا الرقم. وفي كل الحالات، يمكن القول أن متوسّط عدد الإفادات الذي تصدره النقابة يوميّاً في الوقت الراهن سيعني تجاوز عدد هذه الإفادات 2100 إفادة على أساس سنوي، وهو رقم ضخم رغم أنّه لا يشمل عدد المهندسين المهاجرين الذين لا يحتاجون إلى إفادات النقابة. وهنا يشير التقرير إلى أن نصف عدد المهندسين المسجلين في النقابة باتوا عمليّاً خارج البلاد، فيما يفاقم من حجم الأزمة اتخاذ عدد من شركات الهندسات قرارات بنقل مراكزها إلى الخارج، نتيجة الأزمة التي تعصف بلبنان وما ينتج عنها من تداعيات.
القطاع الصحي
ينقل التقرير عن نقيب الأطباء أن عدد الأطباء الذين غادروا البلاد خلال الأزمة تجاوز حدود 500 طبيب من أصل 15,000 طبيب مسجّل في النقابة، فيما تجاوز عدد المغادرين من الطاقم التمريضي مستوى 500 ممرّض وممرّضة من أصل 16,800 شخص مسجّل في نقابة الممرضين. علماً أن حساسيّة هذا القطاع تكمن اليوم في حاجة لبنان الماسّة إلى العناصر الأكثر كفاءة وخبرة فيه، في ظل أزمة تفشي وباء كورونا، في حين أن العديد من الدول لجأت مؤخراً إلى تسهيل عمليات استقطاب الطواقم الطبيّة والتمريضيّة، لحاجتها إلى هذه العناصر في ظل هذه الأزمة الصحيّة. وفي ظل تراجع قيمة أجور العاملين في المستشفيات من أطباء وممرضين، بسبب تراجع سعر الصرف والضائقة الماديّة التي تمر بها الكثير من المستشفيات، ترتفع الأجور المعروضة في الخارج على أصحاب الكفاءة والخبرة في هذه المجال، نتيجة زيادة الطلب على الخدمات الصحيّة بسبب الوباء، ما يفاقم في الوقت الراهن من حجم موجة الهجرة في أوساط العاملين في هذا القطاع.
في هذا الإطار، يشير المتابعون إلى أن الرقم الفعلي لعدد الأطباء والممرضين الذي غادروا لبنان قد يتجاوز هذه الأرقام بنسبة كبيرة، نظراً لعدم قدرة النقابتين على إحصاء المغادرين إلى دول لا تحتاج إلى إفادات أو معادلات خاصّة، كدول الخليج العربي أو أوروبا الشرقيّة وغيرها. مع الإشارة إلى أن القطاع التمريضي بالتحديد سيكون في قلب عاصفة هجرة الأدمغة خلال المرحلة المقبلة، وتحديداً بسبب الحاجة المتزايدة لزيادة الطاقم التمريضي في مختلف الدول الأوروبيّة، وفي ظل سهولة الانتقال للعمل في الخارج، وعدم وجود الكثير من العوائق القانونيّة والتنظيميّة كحال الأطباء مثلاً.
أساتذة الجامعات
بالنسبة إلى أساتذة الجامعات، يعود التقرير إلى أرقام الجامعة الأميركية في بيروت، التي تشير إلى أن ما يقارب 12% من طاقم التعليم لديها غادروا البلاد بفعل الأزمة الموجودة حاليّاً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأساتذة الجامعيين المتعاقدين مع الجامعات يلتزمون في العادة بصفوف محددة على أساس سنوي مع جامعاتهم. ما يعني أن العدد مرشّح للارتفاع بشكل كبير خلال فصل الصيف المقبل، بعد انتهاء فصل الربيع الدراسي. أما المسألة الحسّاسة في ما يخص القطاع التعليمي بالتحديد، فهو أن جزءاً وازناً من الأساتذة المتعاقدين أو المثبتين في الجامعات العريقة الخاصّة هم أساساً من الأساتذة الأجانب، أو من الأساتذة اللبنانيين الذين نالوا شهاداتهم العليا في الخارج، ويملكون القدرة على التعاقد مع جامعات أجنبيّة بسرعة ومن دون الكثير من العوائق.
وهنا تشير مصادر من داخل الجسم الإداري للجامعة الأميركيّة، إلى أن الجامعات اللبنانيّة الخاصة تعاني أساساً من منافسة إقليميّة شديدة على الأساتذة المعروفين في مجالاتهم، وخصوصاً من قبل بعض الجامعات الخليجيّة التي تملك الدعم الحكومي الوازن، الذي يسمح لها بمنح عروض ورواتب مميزة للأساتذة المتعاقدين معها. ولهذا السبب، من المتوقع أن تعاني الجامعات اللبنانيّة من أزمة ناتجة عن نزوح عدد كبير من الأساتذة خلال الأشهر المقبلة بعد انتهاء عقودهم. لا بل من المتوقع أيضاً أن تشهد موجة من نزوح كادر الإدارات العليا، الذين تتنافس أيضاً على استقطابهم الجامعات الإقليميّة.
موظفو المصارف
يصعب تحديد رقم دقيق لمعدلات الهجرة في هذا القطاع، نظراً لاختلاط أعداد المستقيلين لغايات الهجرة بالموظفين الذي صرفتهم إدارات مصارفهم، في إطار موجات الصرف التدريجي البطيء. الدراسة تشير إلى انخفاض عدد موظفي المصارف بحدود 1,117 موظفاً، من دون أن تتضح فعلاً وجهة هؤلاء بعد خروجهم من القطاع. لكن الأكيد حتّى اللحظة هو أن المصارف تتجه خلال العام الحالي لإعادة هيكلة واسعة النطاق، خصوصاً مع انحسار نطاق أعمالها وحجم ميزانياتها، بشكل تدريجي. ولذلك، من المرتقب أن يكون جزء كبير من 23,954 موظفاً في صفوف العاطلين عن العمل خلال الأشهر المقبلة. ما يعني وضعهم في خانة الساعين لمغادرة الأرض المحروقة، نظراً لصعوبة العثور على أي فرصة عمل جديدة، خصوصاً في مجالهم.
المعدلات المرتفعة
لقياس مستويات الهجرة في المجتمع اللبناني في كل سنة، اعتمد التقرير على مؤشّر يقيس نسبة المهاجرين من كل ألف نسمة من المقيمين في لبنان. وحسب أرقام هذا المؤشّر، ارتفعت نسبة المهاجرين من 4.49 بالألف سنة 2018 إلى ما يقارب 12.52 بالألف سنة 2019، وصولاً لمستوى 16.54 بالألف خلال السنة الماضية. وهو ما يدل على تسارع مستمر في وتيرة موجة الهجرة التي تتوازى مع تعقّد المشهد الاقتصادي محلّياً. وحسب الأرقام نفسها، لم تشهد البلاد طوال السنوات الأربعين الماضية هذا المستوى من المهاجرين قياساً بعدد المقيمين على الأراضي اللبنانيّة. ما يعني أننا بتنا اليوم أمام موجة هجرة ضخمة وواسعة النطاق، وليس استمراريّة لنمط الهجرة نفسه الذي اعتادته البلاد طوال العقود الماضية.
في الخلاصة، سنكون هذه المرّة أمام تشوّه كبير سيصيب بنية المجتمع اللبناني وقواه المنتجة، من خلال إفقاده جزء وازن من موارده البشريّة الأكثر كفاءة والأكثر حساسيّة دفعة واحدة، وأثر هذه المسألة سيظل محفوراً على المدى الطويل حتّى لو تمكنت البلاد من تخطي الأزمة الماليّة خلال السنوات المقبلة. أمّا أخطر ما في الأمر، فهو أن الأرقام الحاليّة لا تعكس حجم الظاهرة الفعلي، خصوصاً أن الكثير من الأسر تنتظر انتهاء عام أبنائها الدراسي قبل المغادرة والاستقرار في الخارج، وهو ما يعني أننا سنقبل على أرقام أكثر هولاً خلال فصل الصيف المقبل. وبذلك، سيصح القول أن لبنان بات في نظر أبنائه اليوم أرضاً محروقة، يستميتون لمغادرتها بأي ثمن، بعد أن أماتت الأزمة الراهنة طموح جميع المقيمين هنا وقدرتهم على الحلم.
تعليقات: