يتحدّث الألمان عن مشروع كبير لن تنفّذ كل مراحله إلّا بعد 20 عاماً! (هيثم الموسوي)
ثمانية أشهر مرّت على انفجار مرفأ بيروت، من دون أن تضع الدولة اللبنانية أيّ خطّة لإعادة إعماره. وقبل الخطّة، لم تضع أيّ تصوّر لما تريده. في المقابل، بدأت هجمة دوليّة للاستيلاء على المرفأ، عبر تقديم مشاريع لإعادة بنائه وتطويره. أول العروض قدّمها وفد ألماني رسمياً أمس إلى رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الأشغال العامة والنقل، خلاصتها: نصف مرفأ ونصف سوليدير
بعد الحرب الأهلية، نشأت «سوليدير» فوق أنقاض أبناء البلد ومالكي العقارات فيه. ويبدو أنه في لبنان، يستمر التاريخ بإعادة نفسه. ففيما الدولة اللبنانية عاجزة عن رفع أنقاضها بعد مرور ثمانية أشهر على تفجير مرفأ بيروت، وتفتقر الى الدعم الدولي للإسراع بهذه العملية، وفيما لا يزال الآلاف مشردين من منازلهم، بدأت الدول تتسابق على إعادة إعمار مرفأ بيروت، لا من باب المساعدة ولكن من منطلق الاستثمار بمشروع خاص وضمان الاستيلاء عليه لسنوات طويلة. ما حصل أن الدولة الألمانية سبقت جميع الدول إلى تقديم مسوّدة لما ترغب في أن تنفّذه في المرفأ، بينما اكتفى الفرنسيون والصينيون بإعلان اهتمامهم بإقامة المشاريع في هذه المنطقة في اجتماعات مع وزارة الأشغال العامة والنقل. ويوم أمس، عرض وفد ألماني، ترأّسه السفير الألماني في لبنان أندرياس كيندل وضمّ بعض الموظفين في السفارة، إضافة الى ممثلين عن شركة «هامبورغ بورت» للاستشارات وشركة هندسية تدعى «كوليرز»، أمام رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الأشغال، مخططاً أوّليّاً حول المشروع المعتزم إجراؤه على مساحة 126 هكتاراً من مرفأ بيروت. النقطة الرئيسية في ما تقدّم، هي تقسيم المرفأ الى قسمين: قسم يكون عبارة عن محطة الحاويات وما يرافقها، وقسم آخر يتمّ تطويره لبناء مدينة صغيرة نموذجية أسوة بكل دول العالم المتقدمة، على ما شرح الوفد. القسم الأول يبدأ من محطة الحاويات الموجودة اليوم، والتي لا تزال تعمل، ويمتدّ شرقاً ليشمل جزءاً من مكب النفايات في برج حمود؛ أما القسم الغربي فينتهي عند حدود سوليدير، وهو مُخصّص للسياحة وسيكون عبارة عن أبنية «خضراء» وحديقة ومطاعم مع شاطئ رملي.
هذا الاقتراح يعني المزيد من ردم البحر، وفي الوقت نفسه ابتداع شاطئ رملي اصطناعي، فيما الشطوط الرملية المحاذية استغنت عنها الدولة بالمجان لمصلحة السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال وترفض استعادتها منهم. فيما الجانب الآخر، سيكون بالتوافق على صيغة «مُرضية للجميع»، بمن فيهم بلدية برج حمود، لكي تسمح باستخدام قسم من المكب لقاء كلفة معينة. ومن «الطبيعي» أن يترافق ذلك أيضاً مع ردم مساحات إضافية من البحر في هذه الناحية أيضاً.
كلفة المشروع تراوح ما بين 5 و15 مليار دولار، لن تتكبّد أتعابها الدولة، لا من منطلق «النخوة» الألمانية بالطبع، ولكن لأن الأرباح المقدّرة من المنطقة السياحية وحدها تصل إلى نحو 2.5 مليار دولار سنوياً، على ما قال الوفد، تضاف إليها نسبة من إيرادات المرفأ. وبالتالي، سيُحصّل مستثمرو المرفأ كلفته في سنوات قليلة، ليجنوا بعدها أرباحاً طائلة على مدى عشرات الأعوام حتى تنتهي مدة «ضمانهم» للمرفأ، وهو ما لم يُحدّد بعد.
وبحسب ما أبلغه الوفد الألماني، فإنّ تطوير المرفأ وتشغيل قسمَيه سينتج منه توفير 50 ألف وظيفة جديدة. لكنه لم يقدّم تصوّراً واضحاً عن نسبة الدخل الذي ستحقّقه الدولة اللبنانية من المنطقة السياحية، وهي تفاصيل ستبحث في مرحلة متقدمة، فيما سيزوّد الألمان وزارة الأشغال اليوم بخرائط للمشروع.
القسم الشرقي سيتوسّع نحو مكبّ النفايات في برج حمود ليتحوّل القسم الغربي إلى منطقة سياحية
ما يثير السخرية، أن الوفد الألماني نفسه تنبّه الى سوء إدارة المرفأ، فكان أن أعطى الدولة اللبنانية درساً في «الحوكمة والإدارة»، مشيراً الى ضرورة إنشاء ما سمّاه سلطة نقل وطنية (national transport authority) تتولّى إدارة كل المرافئ، عوضاً عن لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت المنتهية صلاحيتها منذ سنوات، والمؤقتة منذ ثلاثة عقود! الغرض الألماني الأساسي هنا كما أُبلغ الحاضرون: «بناء مرفأ عصري يعتمد نظام التحكّم الرقمي». اللافت هنا، حديث الألمان عن الحاجة الى 20 عاماً لتنفيذ مراحل المشروع! فالمرفأ شيء، وإعادة بناء المنطقة المحاذية شيء آخر لتتناسب مع «التطور العصري»، بحيث تطرّق الحديث الى ابتكار منطقة خضراء تفصل بين المرفأ ومنطقة مار مخايل، بالإضافة الى دراسة للنقل من ناحية بناء سكك حديدية.
وقد تناول النقاش مشروع بناء سكة حديدية تبدأ من المرفأ وتصل الى رياق. كل ذلك، يدخل ضمن نظام DBOT (design, build, operate, transfer)، أي التصميم ثمّ البناء ثمّ التشغيل قبل الوصول إلى المرحلة الأخيرة وهي إعادة الملك الى الدولة اللبنانية.
الاهتمام الألماني ببيروت ككل لا يتوقّف هنا، فقد وقّعت الدولة الألمانية، يوم 13 تشرين الأول الماضي، اتفاقاً أولياً مع قيادة الجيش، لإعادة إعمار قاعدة بيروت البحرية، رغم أن الأضرار التي لحقت بها جراء تفجير المرفأ كانت طفيفة. فيما تتولى شركة ألمانية معالجة ونقل كل المواد الخطرة المخزنة في المرافئ اللبنانية. من شأن هذا الأمر أن يطرح علامات استفهام حول النشاط الألماني غير المسبوق، وعن الدافع وراء هذه «الهجمة» على لبنان، في غياب أيّ تصوّر لبناني لكيفيّة التعامل مع المرفأ ومحيطه بعد الانفجار. ومن المتوقّع أن يسيل لعاب السلطة بسهولة أمام أي مشاريع تحمل أرقاماً مالية كبيرة، بذريعة الأزمة الاقتصادية وحاجة لبنان إلى استثمارات أجنبية. ويترافق ذلك عادة مع الاستعداد للتنازل عن الأملاك العامة لمصلحة أصحاب الثروات، سواء كانوا لبنانيين أو أجانب.
تجدر الإشارة إلى أن حكومة تصريف الأعمال أبلغت الوفد الألماني أن دورها يقتصر على تحضير الأرضيّة لكل المشاريع التي ستقدّم الى لبنان من أجل بناء مرفئه، على أن يكون القرار النهائي بيد الحكومة الجديدة التي ستعدّ مشاريع قوانين لإحالتها على مجلس النواب. وللعلم، في أدراج الدولة اللبنانية مشاريع حول تطوير المرفأ وتحويله الى مرفق سياحي، يتمّ إخراجها إلى الضوء كل حين ثم تعاد إلى مكانها وتُنسى.
تعليقات: