كثيراً ما نسمع ونقرأ كلمة «حداثة» التي سيطرت على القرن العشرين، وطغت على كتابات المفكّرين والباحثين في الاختصاصات كافة من علميّة وأدبيّة وفكريّة وفنّيّة… فماذا تعني هذه الكلمة أو المفردة، وهل هي تتناسب مع ما نعرفه عنها، وهل هناك إضافات على تعريفها، الخ؟ هذا ما سنحاول الإضاءة عليه في هذه السطور على أن تليها وقفة ما بعد الحداثة في مقالة أخرى لمعرفة التمايز والفروق بين هذين المصطلحين المصاحبين للكثير من الكتابات، بل والكثير من اللغط والتعريف والفصل والوصل.
يُفسّر القاموس الفرنسيّ مفردة حديث Moderneبأنّها تعني زمن الذي يتكلّم أو المرحلة المستجدّة نسبيّاًActuele. يستعمل أيضاً كلمة حاليّ ومعاصر ليُشير إلى أنّه بالنسبة لـ «إنسان القرن الثالث عشر، فإنّ الغوطيّة (الفنّ الغوطي) هو «حديث» كما ذكر الشاعر الفرنسيّ «مالرو» Marlaux. يستعمل القاموس مفردات المرحلة الحديثة، الأزمنة الحديثة ومفردات تدلّ على أيّامنا الحاليّة (المناقضة للقديم والهرم). الحديث هو ما يستفيد من التقدّم الحالي للتقنيّة والعلم. الحديث هو ما يأخذ بعين الاعتبار التطوّر المستجد في مجاله؛ المأخوذ من زمنه…
الحديث هو نقيض القديم، البالي؛ هو ما ينتمي إلى مرحلة تلي القديم (الأزمنة الحديثة، العصر الوسيط والمرحلة المعاصرة). القدماء والمحدثون، كبار الكتّاب القدماء وكتّاب الأزمنة الحديثة. صراع القدماء والحديثين: أنصار هؤلاء وأولئك. يُعطي القاومس مثالاً حول التاريخ الحديث ونهاية العصر الوسيط (المتعارف عليه منذ العام 1453 أثناء سقوط القسطنطينيّة) وصولاً إلى الثورة الفرنسيّة 1789…
هذا ما يختصّ بالحديث Moderne. أمّا الحداثة Modernité وModrnisme فهما خاصّيّتا ما هو حديث بالمعنى الفلسفيّ، ولا سيّما في الفنّ التشكيليّ.
لقد اختلف المفكّرون والمختصّون في تعريف الحداثة وبداياتها، ونسبها البعض إلى كلّ حركة أو فكر تغييريّ يثور على القديم ليطرح مفاهيم ورؤى جديدة مغايرة لما هو سائد. من هنا اختلفت الآراء حول بدايتها؛ فقد عرفنا عبر التاريخ ثورات فكريّة مجدّدة قامت على مخالفة السائد، وهذا ما عرفناه منذ العصر الوسيط وما تلاه من حركات فكريّة تجديديّة أخذت مُسمّيات عدّة ومختلفة (المثال الأبرز في الفنون التشكيليّة كما أسلفنا القول). أمّا الحداثة، كمصطلح ومفهوم فلسفيّ، فقد دخلت مفردته في القاموس اللغويّ في منتصف القرن الفائت.
يستعمل الفيلسوف والمفكّر الفرنسيّ جان – فرانسوا ليوتار عبارات «السابق» و»اللاحق» و»الآن» وتدفّق الوعي لتطبيقها على الحداثة، ويربطها بما بعد الحداثة كسيرورتين متلازمتين. يرى ليوتار أنّ الحداثة تحمل في تكوينها وفي أحشائها، ومن دون توقّف، ما بعد حداثتها. ما يعنيه ليوتار هو حاجة الإنسان إلى التغيير المستمرّ والتجدّد في الحياة البشريّة. ويرى أنّ ما يتعارض مع الحداثة، عوضاً عن ما بعد الحداثيّ، قد يكون العصر الكلاسيكيّ، ويعني به الفترة الممتدّة بين 1453 و1789، التي أشرنا إليها بداية، أي ما بين عصر النهضة والثورة الفرنسيّة. وهي عصور عرفت ازدهاراً في شتّى المجالات ووضعها لأسس الفنّ والعلم والفلسفة (المسرح: راسين وموليير – الفلسفة والعلوم: ديكارت – باسكال – الأخلاق: لا بريير- لافونتين…). يرى ليوتار أنّ الحداثة ملزمة بأن تطبع وتؤرّخ لنهاية حقبة وبداية أخرى…
إذن، يرى الكثيرون أنّ الحداثة بدأت مع ديكارت بالفلسفة، ومع غاليلو بالعلم. فقد استنفد العلم وسائله القديمة على يد علماء القرون الوسطى. اخترع العقل الغربيّ في بداية الحداثة «الأنا أفكّر» مع ديكارت، وأبدع الفلسفة المثاليّة المطلقة مع كانط وهيغل وشلنغ وفيشته. الروائيّة الانكليزيّة «فرجينيا وولف» ترى أنّ الحداثة (أو العالم الحديث) بدأت في ديسمبر 1910 حين تغيّرت شخصيّة الإنسان.
امتدت الحداثة القائمة على «اللوغوس» و«الأنا أفكّر» حتى نهاية القرن التاسع عشر. بدأ البحث في الحداثة وفي قيمها وفي منجزاتها وتأثيرها على الإنسان. أصبح العلم في الحداثة خاضعاً للسلطة وإرهاب المؤسّسات وقمعها. رافقت الحداثة حروباً طاحنة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن الفائت، فهدمت المدن وصلبت الإنسان، حسب تعبير الدكتور سامي أدهم. أصبح الاستهلاك هو الهدف الرئيس في مجتمع الحداثة والربح المادّيّ وسيطرة الأنا والصراعات القوميّة وسيطرة الجناسة والوطنيّة القوميّة والسوق والعمل. أصبح الإنسان في مرحلة الحداثة هو الإله، إله نيتشه، تمثّل هذا الشيء في رسوم الفنانين في عصر الحداثة. ركّزت الحداثة على المعنى وعلى المدلول وعلى مركزيّة الكون والحياة.
يرى الكاتبان ميجان الرويلي وسعد البازغي في «دليل الناقد الأدبيّ» أنّ الحداثة جاءت بمشروعها لتخليص الإنسان من أوهامه وتحريره من قيوده وتفسير الكون تفسيراً عقلانيّاً واعياً. رأت الحداثة أنّ هذا المشروع لا يتمّ ما لم يقطع الإنسان صلته بالماضي، ويهتمّ باللحظة الراهنة العابرة: أي بالتجربة الإنسانيّة كما هي في لحظتها الآنية. وهكذا احتفت الحداثة بالصيرورة المستمرّة المتشكّلة أبداً، وغير المستقرّة على حال. من هنا جاء التقابل الضدّيّ بين الثابت والمتحوّل كإمكانيّة تفسير التناقض الواضح بين اللحظة العابرة والقانون الثابت الذي يتحركّ بها، ويمنحها نظاماً مستقرّاً أبديّاً. رأت الحداثة أنّ بإمكانها تحرير الإنسان من أوهام الماضي وطلاسمه من خلال العلم والثقافة المجتمعيّة والتميّز الفرديّ كغاية للتقدّم ونهاية مطاف التطوّر. لذلك نادت الحداثة بشعارات الحرّيّة والمساواة وبقدرة الإنسان على فهم العالم والحياة والذات والتقدّم وتحقيق سعادة الإنسان. لكّنها، أي الحداثة، أسّست بخلاف ذلك للحروب والمشاحنات والاستعمار والإرهاب والهيمنة والتفاوت الطبقيّ والاقتصاديّ المميت، وابتكار القنابل الذرّيّة والنوويّة وغياب المساواة والعدالة التي نادت بها لمصلحة التفوّق العرقيّ والطبقيّ. والغريب في الأمر وجود من يُبرّر بعض نتائجها كالحروب التي يرون أنّها ضروريّة في بعض الأحيان لغايات معيّنة…
سادت في الحداثة المصطلحات التالية: النخبة والنخبويّة، التناسق، اللاتعدّديّة، الرومنطيقيّة والرمزيّة، والمعنى والهدف أو الغاية، والتخطيط المُحكم، والطبقيّة والهرميّة، والسيطرة (اللوغوس)، والعمل المنتهي المكتمل، والبعد والمسافة، والإبداع أو الشموليّة، والحضور، والمركزيّة والتمركز، والنوع الأدبيّ وحدوده، والأنموذج العموديّ، والمجاز، والانتقاء والاختيار، والجذريّة، والعمق والتحليل أو القراءة وسيادة المدلول Le signifié، وأهمّيّة المقروء والسرد أو التاريخيّة الشاملة، والأصل والسبب، والميتافيزيقيا والتسامي… وفي الفنّ التشكيليّ ألغت الأساليب والتقنيات التقليديّة والفريسك والتصوير الزيتيّ والأكواريل والرسم والموزاييك والنحت بالحجر والبرونز كاحتجاج هائل لجيل الشباب بمواجهة الجيل القديم، وابتكرت مدارس فنّيّة لا صلة لها بالماضي كالانطباعيّة والسورياليّة والتكعيبيّة والتجريديّة والرمزيّة والدادائيّة والبنائيّة، وغيرها الكثير ممّن سيطر على نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصولاً إلى ستينيّات وسبعينيّات القرن الفائت الذي سيجد بدائل ومفاهيم جديدة في الفنّ. في الموسيقى خلق الحداثيّون البوب، موسيقى الشبيبة المتحرّرة والثقافة السوداء. وفي الدين فصلوا الكنيسة عن الدولة…
أمّا ما بعد الحداثة فقد كانت أكثر شراسة من الحداثة ونفيها للإنسان الذي تحوّل معها إلى نفي وعدم نظّر لها كبار الفلاسفة والمفكّرين كما سنرى أثناء حديثنا عنها في مقالتنا اللاحقة.
الحداثة نتيجة طبيعيّة لتطلّع الإنسان نحو الأفضل والجديد. هي حاجة ومسار كونيّ يبحث عنهما الإنسان ظنّاً منه أنّها خلاص لمشاكله وضائقته المتنوّعة، لكنّها حملت داخلها نقيضها ونهايتها قد يكون بديلها أكثر شراسة وتعقيداً للحياة..
* د. يوسف غزاويّ (أستاذ جامعيّ، فنان تشكيليّ وباحث)
تعليقات: