المنصة: تثبيت السوق أم فضح التهريب أم فرض سعر رسمي موحد؟ (علي علّوش)
يبدأ مصرف لبنان يوم الاثنين المقبل في المعهد العالي للأعمال ECOLE SUPERIEURE DES AFFAIRES-CLEMENCEAU تدريب أكثر من 150 متعاملاُ من المصارف والصرّافين على ما أصبح يُعرف بـ"المنصة". وهي التطبيق الألكتروني الجديد المعوَّل عليه تخفيض معادلة دولار- ليرة في الأسواق ،وسحب الطلب المؤسساتي من السوق السوداء إلى سوق شبه رسمية.
أهداف المنصة
تهدف هذه المنصّة إلى تنظيم سوق العملة. وبالتالي، فإن هذه المنصّة ستخدم بالدرجة الأولى، وبشكل حصري في المرحلة الأولى، النشاط الاقتصادي. أي التجار والصناعيين والمزارعين.
الجدير ذكره أن كلفة استهلاك المواد الغذائية المُستوردة تبلغ ما بين 80 إلى 100 مليون دولار شهريًا، في حين أن حاجة السوق اللبناني تقدّر بـ30 مليون دولار أميركي شهريًا، أي أن الفارق يذهب تهريبًا، وقسماً كبيراً منه مدعوم! وسيكون اللاعبون على هذه المنصّة هم الصرّافون الشرعيون، والمصارف التجارية، ومصرف لبنان الذي سيتدخّل لامتصاص السيولة (حسب بيان الرئاسة). أمّا في ما يخصّ المواطنين، فمن الواضح أن لا قدرة لهذه السوق على تلبية مطالبهم، نظرًا إلى حجم هذه الطلبات نسبة إلى حجم السوق السوداء المُقدّرة ببضعة ملايين من الدولارات يوميًا. وحسب المعلومات، فإن العمليات سيتمّ تسجيلها ومراقبتها من قبل لجنة الرقابة على المصارف، لمعرفة ما إذا كانت هذه العمليات هي لخدّمة النشاط الاقتصادي أم لا. بالطبع، لا يُمكن للمصارف أن تقوم بعمليات شراء للدولارات على هذه المنصّة (أو غيرها داخل لبنان) بهدف تعزيز وضعها من السيولة، بل إن وجودها في هذه المرحلة هو لتأدية دور تأمين السيولة، وتلبية طلبات الزبائن (من مهام لجنة الرقابة على المصارف التأكد من ذلك).
المصارف ليست مُتحمّسة للمنصة، نظرًا إلى الدور المنوط بها، والذي سيتمّ وضع معالمه في تعميم يُصدره مصرف لبنان. لكن أيضًا يدخل ضمن الفئات غير المُتحمّسة، الصرّافون والتُجّار والمُهربون الذين ستخفّ أرباحهم، نظرًا لعملية تنظيم ومراقبة السوق. ولا يخفى على أحد، أن هناك تُجّاراً متواطئين مع عصابات تهريب، عبر إعطائهم السلع والبضائع المدعومة بهدف تهريبها إلى الخارج. المخازن المحشوة ببضائع مدعومة في بعض السوبرماركات والرفوف الفارغة هي أكبر دليل على النيات السيئة التي يخفيها هؤلاء.
إشارة أيضاً إلى أن المنصة تأخرت لبعض الوقت نظراً لبعض الإجراءات التنظيمية، التي استوجبت فتح مديرية خاصة بها (وعدم توكيلها لمديرية الحسابات الجارية كما كان مقرراً) وتعيين عباس عواضة (رئيس نقابة الموظفين) لإدارتها .
السؤال الأهم اليوم هو: هل ستنجح هذه المنصّة في خفض سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية؟ وبمعنى آخر، ما هي قواعد الاشتباك في السوق الموازي؟
أولاً: المنصة تهدف أن لا يكون سعر السوق عشوائيًا أو مُتلاعبًا به. وأن لا يخضع التجار لابتزاز بعض الصرّافين، وعدم وجود شفافية في تحديد سعر السوق. والمعروف في الأسواق المالية تحديد العرض (الكميّة والسعر) والطلب (الكميّة والسعر). وهو ما يُسمّى بالـorder book، على أن يُصار إلى مُقارنة العرض والطلب واستخراج السعر الذي يُعظّم الكمّية المُتداولة. من هنا، تأتي المِنصّة التي سيُطبقها مصرف لبنان لتُعطي سعر السوق شرعيةً أكثر، من خلال عنصر الشفافية الذي يُمكن الحصول عليه عبر عرض الـorder book.
أرقام وكتل وودائع
ثانياً: المنصة تهدف إلى مقاربة واقع السوق، وتحديد المضاربات. إلا أن الاختلالات البنوية أكبر من أن تعالجها "المنصة". وتظهر آخر إحصاءات المركزي التغييرات في الكتلة النقدية:
- زيادة السيولة الجاهزة بـ20,742 مليار ليرة أي 173.25% في عام واحد ( شباط 2020-2021). أي استمرار المودعين الهروب من الليرة اللبنانية نحو الدولار، علماً أن نسبة دولرة الودائع اليوم هي الأعلى منذ نيسان 2008.
- زيادة بـ66.07% بالودائع تحت الطلب بالليرة اللبنانية. في بداية 2020 كانت الودائع تحت الطلب بلغت 30122 ملياراً و515 مليون ليرة. أي 19.882 مليون دولار. فيما بلغت الودائع لأجل 209902 مليار من أصل 240025.5 مليار. أي نسبتها فقط 12.5 في المئة. وهذا يمكن أن يطلبه المودعون من الشبابيك المصرفية.
- زيادة كتلة "م1" بـ131.71%. فمنذ بداية الأزمة في لبنان، تضخّم حجم الكتلة النقدية في التداول بشكل هائل. ففي نهاية تشرين الأول من عام 2019 كان حجم هذه الكتلة يبلغ 6000 مليار ليرة، أي ما يوازي 3% من مجمل المعروض النقدي المعرّف عنه في الكتلة "م3"، والذي يشمل النقد في التداول والحسابات الجارية والحسابات المجمّدة وحسابات الدولار. أما في نهاية شهر كانون الأول من عام 2020، فقد ازداد حجم هذه الكتلة النقدية المتداولة إلى نحو 31000 مليار ليرة، أي ما يوازي 15% من مجمل المعروض النقدي. هذا الارتفاع في نسبة النقد المتداول من المعروض النقدي، يشير إلى تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد الـ"كاش".
إشارة إلى انه بين تشرين الأول 2019 وكانون الأول 2020، أي خلال 15 شهراً مضت، تضخّمت الكتلة النقدية المتداولة بنسبة 215%. وهو ارتفاع لم يسبق أن شهده لبنان إلا في النصف الثاني من الثمانينيات، ربطاً بانهيار العملة وتدهورها المتسارع في تلك الفترة. أما في الانهيار الحالي، فإن انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار بلغ 83% (ارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة بلغ 500%).
- تراجع -34.44% الودائع لأجل بالليرة اللبنانية. وهو ناتج عن إجراءات تجميد حسابات المودعين.
- زيادة بـ19.98% كتلة "م2" -السيولة المحلية الخاصة- في عام (شباط 2020 -2021)
- زيادة انكشاف القطاع المصرفي أمام الديون السيادية، وتضخم حجم الكتلة النقدية وتراجع الودائع. فالاختلالات الخارجية التي تفاقمت نتيجة التراجع الملحوظ في حركة الأموال الوافدة، في ظل شبه القيود المفروضة على حركة الرساميل الخارجية، بحاجة إلى تصحيح سريع .وعليه، تراجعت الودائع بالعملات الأجنبية بـ-4.55% (في عام شباط 2020 -2021).
- سندات الدين المصدرة تراجعت بـ-35.11%
- كتلة "م 3" سجلت زيادة بـ2.79%
- زيادة بـ2.36% سندات يملكها القطاع غير المصرفي.
- زيادة بـ2.76% في كتلة "م4".
- حجم التحويلات من المصارف العاملة في لبنان إلى مصارف خارجية، بين تشرين الأول 2019 وكانون الثاني 2020، عادل نحو 2.276 مليار دولار أميركي، ما لا يقل عن 60% تمثل تحاويل مرتبطة بودائع منشأها عقود ائتمانية (هناك عدم وضوح في حجم التحويلات إلى الخارج من 17 تشرين الأول 2019. فلماذا حدد الطلب الرسمي لها "إلى المصارف السويسرية فقط"، فيما يمكن أن تكون في اتجاهات مختلفة، إلى أميركا وأوروبا).
دولارات المنصة والهندسات
ثالثاً: فرض قواعد اشتباك في السوق الموازي متعلق بمسألة من أين سيتمّ تأمين الدولارات لهذه المنصّة؟ هل لمصرف لبنان القدرة على تأمين النقص في الدولارات المطلوبة في هذه السوق؟ مصرف لبنان يدعم التجّار على سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة) وعلى سعر المنصّة الإلكترونية (3900 ليرة) حيث تُقدّر نسبة هذا الدعم من إجمالي العمليات ما بين الـ60 والـ70%. هذا الدعم سيبقى في المبدأ مؤمّنًا، على أن تكون المنصّة الجديدة هي المكان لتمويل الباقي من كلفة استيراد الدعم (15%) بسعر المنصّة الجديدة. السوق السوداء التي تحوي هذه الـ15%، حجمها لا يزيد عن بضعة ملايين من الدولارات في النهار، أي أن مصرف لبنان قادر مع المصارف والصيارفة على تأمين هذه المبالغ.
رابعاً: إن تسهيل خلق سوق موازية للدولار و"الهندسات المالية " أُدرجت في ميزانية مصرف لبنان تحت بند "أصول أخرى" مبلغ 47 ملياراً و990 مليون دولار أميركي (يرد في الميزانية أنّ المبلغ يتضمن العمليات في السوق الحرّة، والفرق بين القيمة الاسمية للعملات المعدنية وتكاليف إنتاجها). وهذا يؤكد وجود فرق بين الخسائر التي تحدّثت عنها شركة لازار ووردت في الخطة المالية. وكُتب في الخطّة المالية أنّ خسائر المصرف المركزي هي تعبير عن "سنوات من المعاملات المالية الخاسرة التي أدارها، وتسارع تراكمها مع الهندسات المالية التي بدأت سنة 2016 (12 مليار دولار تقريباً).
لكن نجاح هذه العملية مرهون بعوامل غير نقدية:
أولاً- مُحاربة السوق السوداء غير القانونية. وهو ما يتطلّب مواكبة من الأجهزة الرقابية والأمنية. وأيضًا من قبل القضاء؛ لكن المشكلة تطوّرت أكثر حين بدأت السياسات النقدية تُستعمل من أجل إطفاء الخسائر عبر ضخّ كميات كبيرة من العملة الوطنية في السوق. كان المعدل الشهري للكميات التي تُضخّ يبلغ 1300 مليار ليرة شهرياً، وارتفع اليوم إلى 1660 مليار ليرة، بعدما سارع مصرف لبنان إلى إطفاء قسم من الودائع بالدولار عبر طباعة النقود. ولعب ارتفاع حجم الكتلة النقدية في التداول دوراً محورياً في زيادة تدهور سعر الصرف. إذ إنه كلما تضخّمت هذه الكتلة زاد الطلب على الدولار. وهذا الأمر يعود إلى سببين هما:
استعمال الليرة للاستهلاك الذي يُستورد بغالبيته. ما يعني أن هذه الليرات في نهاية المطاف ستتحول إلى دولارات، وهو ما يزيد الطلب على الدولار.
وهناك أزمات تضغط على استقرار العملة المحلية، فيلجأ الأفراد إلى محاولة الحفاظ على قيمة مدّخراتهم وثرواتهم، فيتجهون إلى تحويل أموالهم إلى أصول تحفظ قيمتها. الدولار هو أحد هذه الأصول. وهذا الأمر يمثّل طلباً إضافياً على الدولار.
ثانيًا- مُحاربة التهريب بكل أشكاله لضمان كفاية السوق اللبناني وعدم السماح للتجّار بتهريب البضائع والسلع المدعومة (وحتى غير المدعومة!) إلى خارج الحدود، كما هو الأمر حتى الآن حيث نرى المواد الغذائية المدعومة في العديد من دول العالم (السويد، الكويت، غانا...) والمحروقات في سوريا. وبالتالي، فإن استخدام المنصّة الجديدة، التي ستُسجّل العمليات بشكل علني، ستسمح للأجهزة الرقابية من وزارة الاقتصاد والتجارة ووزارة المال والجمارك بملاحقة التجار المُخالفين. والأهمّ، ملاحقة التهرّب الضريبي الذي يقوم به هؤلاء عبر رفضهم القبول بوسائل الدفع بالشيكات أو البطاقات المصرفية واعتماد النقد.
ما هو سعر الدولار في المرحلة المُقبلة؟
هل يُمكن التنبؤ بسعر صرف الدولار في المرحلة المُقبلة؟ الجواب كلا. لكن، وبتحليل للواقع، يُمكن القول إن نجاح عمل المنصّة التي سيطلقها مصرف لبنان، سيجعل الدولار ينخفض حكمًا على المدى القصير. وإذا ما تشكّلت حكومة قادرة على القيام بإصلاحات اقتصادية ومالية، فإن الدولار سيعود أدراجه إلى مستويات مقبولة للمواطن اللبناني.
تعليقات: