الاقتصادية نسرين سلطي: أرباح المصارف فاقت نظيرتها البريطانية

لم تتعامل السلطات السياسية والنقدية والمالية في لبنان مع الأزمة الاقتصادية عامة والمصرفية خصوصاً، بجدّية أو بمسؤولية حتى اللحظة، لا بل تعمّدت، من خلال سياسة الإنكار التي تنتهجها، تحميل جزء كبير من الخسائر للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

وليست المصارف اللبنانية بريئة من جريمة ضياع أموال المودعين. فهي تعمّدت اختلاس أموالهم، بعدما جنت أرباحاً فاقت في السنوات السابقة أرباح كبرى مصارف المملكة المتحدة.

وتشرح الباحثة وأستاذة الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت نسرين سلطي في حديث لـ"المدن"، ما إذا كانت أموال المودعين في المصارف اللبنانية أهدرت أم اختلست، وما يمكن ةاسترداده يوماً ما.


اختلاس مزدوج

1- هل تعتبرين أن أموال المودعين في المصارف اللبنانية أُهدرت (بضم الألف) أم اختلست؟

ماذا يحصل لأموال المودعين عند إيداعها... تُستعمل لأغراض مختلفة: تسليف الخزينة، تسليف المصرف المركزي، وتسليف القطاع الخاص (في حدود دنيا في حال القطاع المصرفي في لبنان). وتقع على عاتق المصرف التجاري مسؤولية توزيع الأموال توزيعاً سليماً، يقلل من احتمال تعثّر استردادها من الجهة الدائنة. ومن الواضح أن القطاع المصرفي أخفق في مهمته في الحفاظ على أموال المودعين من خلال خياراته في توظيف هذه الأموال. لكن الخيارات هذه لم تكن "بريئة" في عدم صوابها، بل حققت للمصارف أرباحاً باهظة (سجّلت بعض المصارف اللبنانية أرباحاً ضاهت أرباح أكبر مصارف المملكة المتحدة في السنوات الماضية). وعملية توزيع أرباح كهذه في السنوات التي سبقت الإنهيار، والتي كان ميزان المدفوعات فيها في عجز، قد تُعتبَر اختلاساً. وهناك دراسات تشير إلى أن المصارف ذات المجالس الإدارية الأقرب صلة إلى أفراد أو عائلات من الطبقة السياسية، كانت لديها نسبة أعلى من القروض المتعثّرة في القطاع الخاص. وهذا اختلاس من نوع آخر. وأخيراً، شكلت أموال المودعين جزءاً لا بأس به من مصدر تمويل الدين العام. فعلى قدر ما يُعتبَر أن المال العام قد هُدر، يلحق هذا الهدر بالجزء المموّل من الإيداعات المصرفية أيضاً.


عسر الحل القضائي

2- مَن المسؤول عن ضياع أموال المودعين؟ وهل من آلية لاستردادهم أموالهم؟ مسألة المسؤولية قد تبتّ من منطلق قضائي. فالقانون يحدد حقوق ومسؤوليات المودع والمصرف التجاري والمصرف المركزي في الحفاظ على أموال المودعين، كما يحدد القانون أولوية هذه الحقوق، مما قد يضم آلية استرداد ولو جزء من الايداعات. لكن الحل القضائي قد يتعسر، لأن الأزمة تطال القطاع بمجمله ولا تقتصر على مصرف واحد. المطلوب اليوم جردة شاملة (لا مصرفية فحسب) تقيِّم الخسائر، وتحدد حجم الفجوة وتطرح خطة لإعادة تنظيم القطاع، تلحظ توزيعاً للخسائر (أي تحديد هوية وقيمة الإيداعات التي سيتسنّى استردادها). هذا مشروع سياسي يتطلب شرعية وعدالة وشفافية.


هيكلة المصارف

3 - هل يتم التعاطي مع مسألة إعادة هيكلة المصارف بالجدّية المطلوبة؟

المفقود اليوم ليس جدية التعاطي. ما نشهده منذ بداية الأزمة هو امتناع لا عجز عن التعاطي مع الوضع على أنه أزمة تحتاج إلى خطة إدارة شاملة. فالحريات (شبه المطلقة) التي مُنحت للمصارف والتي تسمح لها بحجز الإيداعات من دون أي عقوبة تعطي لهذه المصارف فرصة لتحمّل العبء الأكبر من الخسائر للمودع، علماً أن حجم الفجوة يكبر نتيجة هذه الممارسات. وهذه السياسة الخبيثة لا تنحصر في كيفية التعاطي مع الأزمة المصرفية. بل تشمل أيضاً إدارة الشقّين الاقتصادي والنقدي من الأزمة. فالسياسات التي تؤدي إلى التفقير التدريجي أصبحت أداة تقليص العجز التجاري (وهذا وجه آخر من خطة تحميل عبء الخسائر للطبقات الفقيرة والوسطى، وليس للمودعين وحدهم).


من أين البداية؟

4 - إذا تشكلت حكومة، من أين يجب أن تباشر الإصلاحات وما هي الأولويات برأيك؟

الأولوية تكون في تنفيذ جردة شاملة يتم من خلالها تقييم الخسائر، تحديد حجم الفجوة وطرح خطة لإعادة تنظيم الإقتصاد، تضم توزيع الخسائر. توزيع الخسائر مشروع ذو كلفة سياسية مرتفعة جداً، ونجاحه يرتبط بخطة إعادة هيكلة وتأهيل للقطاع المصرفي، تأخذ بعين الاعتبار توزيع هذه الخسائر. ولذلك فهذا المشروع يتطلب شرعية وثقة (التي تفتقدهما أي حكومة ممكن تشكيلها في الظرف الحالي).

5 - ما هي الاستحقاقات التي لا يجب أن تنتظر تشكيل الحكومة، وعلى حكومة تصريف الأعمال المباشرة بها فوراً للتعامل مع الأزمات المالية والإقتصادية؟

أعدت الحكومة الحالية تقريراً في مطلع العام الماضي، وحاولت أن تقيّم فيه حجم الخسائر، إلا أن انعدام أي نية لدى القوى السياسية في البناء على هذا التقرير، أصبح واضحاً عندما عدّلت لجنة المال في مجلس النواب تقديرات الخسائر على مزاجها، ولم تباشر أي جهة بالمتابعة أو باتخاذ أي خطوات عقب التقرير حتى بعد تعديله. فبات مفضوحاً أن سلطة الحكومة محدودة للغاية، وهذا حتى قبل أن تستقيل! عمليات الترقيع والتسكيج المؤقت أطالت فترة التظاهر بالعجز في الإدارة والخلافات السياسية التي تعطي غطاء لانتهاك حقوق الناس من خلال ممارسات مصرفية ومالية ونقدية، تدل في الحقيقة على نقيض العجز وفائض من القوة من دون رادع أو رقابة.


غموض الخسائر

6 - هل العودة إلى طاولة صندوق النقد الدولي أمراً ضرورياً وحتمياً؟ أم أن هناك مخارج أخرى للأزمة اللبنانية؟

جردة الحسابات والموجودات، الأصول والمتوجبات، هي التي ستمكننا من تحديد المصائر المتاحة. للأسف، حتى تقييم حجم الخسائر، التي حاولت إقراره الحكومة الحالية منذ 14 شهراً، أصبح باطلاً مع سرعة التدهور منذ إصداره، وهذا يحصل في ظل الاستمرار في ممارسات تزيد النزيف وترجئ وتعسّر الحلول.

تعليقات: