خطأ سلامة بدأ منذ مؤتمر باريس 2 عام 2005 (علي علّوش)
السياسات النقدية والمالية التي ترميها السلطة السياسية في ملعب رياض سلامة للتبرؤ من مفاعيلها ونتائجها، سيكون رده عليها واضحاً. فهو لديه أيضاً مستمسكات على كل القوى السياسية، وبعض من هاجموه وصعّدوا الحملة بوجهه ودفعوا رئيس الحكومة إلى تهديده، وليس من مصلحتهم أن يفرج سلامة عن ما في جعبته، فيما تعجز الحكومة عن تعيين نواب لحاكم المصرف ورئيس لهيئة الرقابة على المصارف ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان.
حسابات سويسرية
لماذا سمح سلامة لـ"الخطوط الحمر" بالتمادي في تقويض استقرار الليرة؟ ولماذا أكد "الحاكم" أن الليرة كانت بخير وهي لم تكن منذ 1992 إلا بخطر، وبحاجة إلى جرعات منقذة. وهو الذي "سهل" إدخال عملات صعبة إلى النظام المصرفي اللبناني ثمنها كان كبيراً جداً، وتوجب على المصارف دفع فوائد عالية لإغراء المودعين من جهة، وتمويل دولة مفلسة بكلّ معنى الكلمة، هي الدولة اللبنانية من جهة أخرى.
أسئلة كثيرة تقض مضاجع السلطات النقدية، وأهمها كيف سهلت شركة Forry Associates Ltd (المسجلة في تورتولا في جزر العذراء ولها مكتب في بيروت، والمستفيد الاقتصادي منها رجاء سلامة) هذا العقد، الذي سيوقعه رياض سلامة وشقيقه، وسيمكن الشركة من بيع سندات الخزانة وكذلك سندات BDL Eurobond من خلال تلقي عمولة اكتتاب. فوفقًا للمدعين العامين السويسريين، بين نيسان 2002 وتشرين الأول 2014، نتج عن هذا العقد وصول أكثر من 326 مليون دولار إلى حساب Forry Associates في HSBC Private Bank (سويسرا) في جنيف، وهو الحساب الذي سيكون المالك المستفيد منه أيضًا رجاء سلامة.
إلى حد كبير، كان من الممكن إعادة تحويل هذه المبالغ المصنفة على أنها "عمولات" أو "تكاليف"، وفقًا للعدالة السويسرية، على الفور إلى الحساب الشخصي لرجاء سلامة، الذي لا يزال في HSBC، والذي كان سيُضاف إلى 248 مليون دولار. لكن خلال الفترة نفسها، ورد أنه تم إرسال 207 مليون دولار منها إلى خمس مؤسسات لبنانية: Bankmed، بنك مصر لبنان، Crédit Libanais، بنك عودة، وبنك سرادار، في وقت كانت الليرة اللبنانية، مقومة بالدولار، تعتبر آمنة، ملاذاً. هذه المرة، لم يعد هناك أي سؤال يتعلق بالعمولة، فالتحويلات ستعرض تحت عبارة "نفقات شخصية".
نهاية الدعم
اللبنانيون اليوم بين مطرقة التدقيق الجنائي وسندان البطاقة التمويلية. فالأرقام التي كشفها وزير المالية تعني أن ترشيد الدعم لا يستطيع أن يكون على مدى طويل، بمعنى أنّ أفضل الممكن هو خفّض الدعم إلى النصف دفعة واحدة، لكي يصبح المبلغ المتبقي كافياً لمدة 4 أشهر بدلاً من شهرين. فالحكومة مصرّة على عدم البدء في ترشيد الدعم قبل إقرار البطاقة التمويلية للأكثر حاجة، وبالعملة الوطنية، لأنه لم يعد متاحاً تأمين أموال بالدولار كما كان الحال قبل سنة أو ستة أشهر. وهذا يعني أن شريحة من اللبنانيين ستحصل على تمويل شهري بالليرة مقابل وقف الدعم. وفي تلك اللحظة، سيرتفع عدد العائلات المحتاجة بنسبة كبيرة وسريعة وستشمل أكثر من 80% من العائلات".
التدقيق وأدوار السياسيين
واضح أن التدقيق المالي الجنائي "لن يبرد"، وسيحصل من قبل الأوروبيين طالما رفض اللبنانيون القيام به. حتى ولو كان على شكل استجابة لدعاوى رفعت من قبل لبنانيين في الخارج أو مودعين في المصارف اللبنانية من الذين فقدوا القدرة على استخدام أموالهم. فهل قانونيته مشروعة؟
الجدل القانوني يحتدم حول شرعية اجراء تدقيق حسابي من جهة خارجية فأين دور مفوض الرقابة لدى مصرف لبنان؟ وهل يمكن الطعن بما ينص عليه قانون النقد والتسليف وتنظيم مصرف لبنان، لا سيما لناحية المسؤوليات الخاصة بالقرارات العائدة إلى إدارة المصرف والسياسات النقدية والتسليفية والفوائد المعتمدة من قبله، وإقراض القطاع العام، ووضع الموازنات السنوية، والموافقة على التقرير السنوي الذي يرفعه الحاكم إلى وزير المال.. وهي مسؤوليات المجلس المركزي مجتمعاً، وليست مسؤولية الحاكم حصراً، كما يحاول البعض تصويره عن جهل أو عن عمد، لتشويه صورة رياض سلامة ومحاولة التفلت من المسؤوليات العائدة إلى السياسيين، من خلال الذين انتدبوهم وسموهم لتولي عضوية المجلس المركزي.
أدوار الحاكم ومسؤولياته
نصت "المادة 33-معدلة وفقا للقانون 8/75 تاريخ 5/3/1975 على أن نطاق الصلاحيات المُعطاة للمصرف قد تمت ضمانته بموجب هذا القانون وخاصة لناحية تحديد -على ضوء الأوضاع الاقتصادية- معدل الحسم ومعدل فوائد تسليفات المصرف، ويتذاكر في جميع التدابير المتعلقة بالمصارف. بالإضافة إلى المادة 70-معدلة وفقا للمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973، والتي نصت على أن مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم. وتتضمن مهمته بشكل خاص "المحافظة على سلامة النقد اللبناني" و"المحافظة على الاستقرار الاقتصادي"، و"المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي"، و"تطوير السوق النقدية والمالية". كما نصَت المادة 75-معدلة وفقا للمرسوم 6102 تاريخ 5/10/1973- على حق مصرف لبنان باللجوء إلى الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع. ومن أجل ذلك يمكنه أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية مع مراعاة أحكام المادة 69.
لماذا هذا الكلام؟ تقول المصادر أن الخطوط الحمر التي رسمها سلامة أضحت تقلق البعض وأهمها:
- موقفه الدائم لاعتماد المعايير الدولية للتدقيق.
- موقفه الدائم المحذر للحكومة من مخاطر العجز المتمادي وعدم ضبط الإنفاق في الموازنات السنوية التي كانت تعتمدها بعد موافقة مجلس النواب.
- موقفه المعروف والصريح والقديم من ضرورة وضع حد لعجز الكهرباء.
- موقفه من المخاطر المالية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب.
- موقفه العلني المتكرر من القضايا الإصلاحية ومعالجة الهدر والفساد والشفافية. وهو ما كرره على مسامع المسؤولين مئات المرات وفي كل مؤتمرات دعم لبنان في الخارج.
- موقفه المعروف من الآثار والنتائج السلبية للتوترات الأمنية الداخلية والأثمان الاقتصادية للحروب.
بين مطرقة الدين وسندان المصارف
هنالك من يقول أن خطأ رياض سلامة الأساسي هو انه لم يلعب دور المحاسب للقطاع، ودفع "المركزي" فوائد مرتفعة جدّاً للمصارف، حتى تضع أكثر من 54% من أموال المودعين لديه، فيتمكّن من امتصاص الأموال بالعملات الأجنبية. كما استخدم "المركزي" الدولارات التي يملكها لتغطية عمليات دمج المصارف. منذ عام 2016، وحتى تموز 2019، حقّقت المصارف أرباحاً كثيرة بسبب الفارق الكبير بين الفوائد التي تدفعها هي لزبائنها، وبين الفوائد التي يدفعها لها مصرف لبنان. ومع اشتداد الأزمة، طُرح السؤال حول عدم توقّف "المركزي" عن دفع الفوائد، ولا سيّما تلك بالدولار، أو على الأقل تخفيضها. في بداية العام الجاري، قرّر مصرف لبنان "استثنائياً" دفع الفوائد على ودائع المصارف بالدولار المودعة لديه بنسبة 50% بالدولار و50% بالليرة اللبنانية.
و في هذا الإطار، يُتهَم سلامة أنه لعب دوراً خجولاً أمام إجراءات المصارف غير القانونية في التعامل مع المودعين. أما التواطؤ بين ثلاثي السلطة السياسية-المصرف المركزي-المصارف، فأدى إلى بدء تبلور ردّ فعل سياسي ناقم، كان له انعكاساته على بعض إجراءات الحكومة، كالتدقيق في حسابات المصرف المركزي. فأتت النتيجة في الصفحات 16 و17 و18 من مسودة "الإصلاح المالي". ويرد فيها أنّ "الاعتراف بالخسائر السابقة التي تراكمت على مصرف لبنان، والخسائر المتوقعة بعد إعادة هيكلة الديون السيادية، هي الخطوة الأولى في الإصلاح الشامل للنظام المالي اللبناني".
وهنالك من يقول ان خطأ رياض سلامة هو تسهيل خلق سوق موازية للدولار و"هندسة" موازنته. فلقد أُدرج في ميزانية مصرف لبنان تحت بند "أصول أخرى"، وتضمّ مبلغ 47 ملياراً و990 مليون دولار أميركي (يرد في الميزانية أنّ المبلغ يتضمن العمليات في السوق الحرّة، والفرق بين القيمة الاسمية للعملات المعدنية وتكاليف إنتاجها). وهذا يؤكد وجود فرق بين الخسائر التي تحدّثت عنها شركة لازارد، ووردت في الخطة المالية. وكُتب في الخطّة المالية أنّ خسائر المصرف المركزي هي تعبير عن "سنوات من المعاملات المالية الخاسرة التي أدارها، وتسارع تراكمها مع الهندسات المالية التي بدأت سنة 2016 (12 مليار دولار تقريباً)، وطلب المركزي من المصارف إيداع أموال جديدة لديه، مُقابل إقراضهم بالليرة اللبنانية بفائدة مُتدنّية، ثمّ يدعو المصارف إلى الاكتتاب بشهادات إيداع ويدفع لهم فوائد عالية.
خطأ مستمر
وهنالك من يقول ان خطأ رياض سلامة الآخر بدأ منذ مؤتمر باريس 2 عام 2005 في عدم السيطرة على نمو الدين العام، وتوزيع المكاسب على المصارف في إدارة انتقال جزء من الدين العام، لكي يصبح مربوطاً لآجال متوسـطة وطويلة المدى، وفي عهدة عدد من الصناديق الاستثمارية والدول الشقيقة والصديقة، ولدى مصرف لبنان وصندوق الضمان الاجتماعي ومؤسسة ضمان الودائع. وكان من المفترض نتيجة ذلك انخفاض مجموع الدين العام ليصبح بالتالي ضمن حدود ما نسبته 50% من مجموع الدين العام، وازدياد معدل آماد استحقاق ديون الدولة الخارجية ،وانخفاض المعدل العام لكلفة الدين العام عما كان عليه قبل مؤتمر باريس-2. كما انه كان من المتوقع أن يستمر الانخفاض في هذه النسبة مـع استحقاقات السندات بالليرة اللبنانية وتحسن أسعار الأوراق اللبنانية بشكل كبير على نحو يصبح المردود عليها مواكباً ومقارباً لما هي عليه مثيلاتها في الأسواق الناشئة، ليصبح سعرها يفوق قيمتها الإسمية.
إن حجم الدين غير مستدام نظراً لديناميته السلبية في ظل الانكماش الاقتصادي المتوقع، الذي تقدر بأنه قد يشارف اكثر من 12% سلباً. إضافة إلى أن ميزانيات المصارف ومصرف لبنان متهالكة، ولا تستطيع الاستمرار بتمويل العجوزات وطبع العملة من دون خنق الاقتصاد، وزيادة التضخم، والضغوط على الليرة.
دور وزارة المال
يجيز القانون، لا بل يلزم وزارة المال بمراقبة مصرف لبنان. وقد خصص القانون القسم الرابع منه لتحديد سبل هذه المراقبة تحت عنوان: "مراقبة المصرف". وقد نصت المادة 41 على أن "تنشأ في وزراة المالية "مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي". يدير هذه المصلحة موظف برتبة مدير عام، يحمل لقب مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو مسؤول عن النواحي الإدارية في المصرف، كما أنه مسؤول عن تنفيذ السياسات، وليس عن التفرد برسمها. صحيح أن له رأياً في هذه السياسات، لكن رأيه هو واحد على سبعة. وبالتالي، فإن القرار في شأن رسم السياسات وإقرارها يعود إلى المجلس المركزي، وفقاً للآليات القانونية المنصوص عنها في القانون ولا سيما المادة 31 التي جاء فيها: "إن حضور أربعة أعضاء على الأقل ضروري لصحة المذاكرات. وتتخذ القرارات بأكثرية أصوات الأعضاء الحاضرين. وفي حال تعادل الأصوات يكون صوت الحاكم مرجحاً".
إلى أين؟
بين كل هذه الأقاويل، حاكم مصرف لبنان كان الضمانة في عهود الأزمات الحقيقية (systemic shocks)، وهي كثيرة: أزمة التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004 والقرار 1559- أزمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005- حرب تموز وتداعياتها عام 2006- أزمة الفراغ الرئاسي - أزمة 7 أيار 2008 وتداعياتها - أزمة تشكيل الحكومة عام 2009 - أزمة إسقاط حكومة الرئيس الحريري عام 2010- أزمة الحرب السورية عام 2011 - أزمة الفراغ الرئاسي عام 2014 - أزمة البنك اللبناني الكندي عام 2013- أزمة الرئيس سعد الحريري في السعودية عام 2017- أزمة جمال تراست بنك عام 2019..
ويبدو خطأ رياض سلامة الأساسي هو أنه الصامت الأكبر. وهل ذلك لعدم اقحام القطاع في السجالات السياسية، وعدم الرد على ما يتهم به، من خلال وضع النقاط على الحروف، وتحميل المسؤوليات كما هي إلى من يجب أن يتحملها، أم للتلويح بأنه "يعرف الكثير".
وبصفته محافظ البنك المركزي اللبناني، رياض سلامة هو ما يُعرف بالشخص المكشوف سياسيًا (PEP). تتطلب هذه الحالة "واجب رعاية خاص" من جانب البنوك، بسبب المادة 6 من القانون الاتحادي بشأن غسل الأموال (LBA). ولكن كما تظهر الإجراءات الجنائية للجنة السياسة النقدية، فإن هذا لم يمنعها من فتح عدة حسابات باسمها في العديد من المؤسسات بعد اكتشاف "أصول رياض سلامة بمبلغ يقدر بنحو 50 مليون دولار في بنوك في سويسرا".
تعليقات: