أطفال يتابعون عمل المبيّض - علي فواز
لم يستطع غزو البلاستيك والألومنيوم والستانليس أن يقضي على أطباق النحاس، لكنه أثّر كثيراً على «كار» تبييض النحاس. وتحوّل «الكور» والقصدير وموقدة النار إلى شواهد على مهنة تعاقبت عليها أجيال وهي ما زالت محط أنظار المسنّين ممن عايشوها
طاريا ــ رامح حمية
الوزاني ــ عساف أبو رحال
«مبيّض..مبيّض»، عبارة يردّدها في أزقّة وأحياء البلدات والقرى البقاعية، لينتزع لقمة عيشه. إنه «المبيّض»... الذي ما يزال يجد سوقاً لمهنته الموروثة، فيعسكر بموقده وأدواته جنب الطريق في البلدات، وينفخ «الكور» ليعيد إلى طناجر الفقراء بياضها المفقود، ويسترجع صورةً من الماضي كادت تندثر.
غسان هلال ابن الخامسة والعشرين ربيعاً، مبيّض أتقن المهنة منذ أكثر من عشر سنوات، بعدما تعلّمها من والده وجدّه اللذين كانا «يقصدان لبنان دائماً بحثاً عن لقمة العيش». ويقول هلال عن مهنة تبييض الأواني النحاسية «هذه مصلحتنا ومهنتنا التي تعلّمناها من أهلنا، ولا نعرف غيرها، لذلك لا يمكننا التخلي عنها»، مشيراً إلى أن مهنة التبييض لم تعد رائجة كما من قبل، وأواني «الستانليس» وطناجر «البريستو»، «جاءت لتنافس المبيّضين وتصادر لقمة عيشهم في لبنان وجميع الدول العربية». ويتابع هلال: «في سوريا أيضاً تراجع استعمال النحاسيات ويتلاشى دور المبيّض شيئاً فشيئاً، فبعدما كنا نتموضع في بلدة واحدة لمدة تزيد على أربعة أشهر في ظل إقبال من الأهالي، فإننا اليوم نلاحق الزبائن حتى البيوت ونسحق الأسعار كي لا تسحقنا البطالة». ويضيف: «على الرغم من أننا أصبحنا قلّة قليلة، إلا أن الأمر لا يخلو من التفتيش والبحث عن الزبائن الذين يستعملون في إعداد مونتهم «الدست واللكن والطناجر»، مؤكداً أنه دخل إلى لبنان منذ خمسة وعشرين يوماً، وبجولته وترحاله كل يوم من بلدة دير زنون إلى قرى: طاريا، شمسطار، بيت شاما وتمنين، عمل على تبييض أواني المونة فقط، وجمع ما يقارب المئتي ألف ليرة لبنانية. وخلص إلى القول: «تسحقنا كل يوم الأدوات العصرية، والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الضاغطة والمتفاقمة التي يعيشها الناس، فتراهم يتخلّون عن الأواني التي لا يستعملونها يومياً، ما يدفعنا إلى تقديم التسهيلات الكفيلة بتأمين معيشتنا والحفاظ على مهنتنا».
ربات البيوت انقسمن بين موال ومعارض للمبيّض وعمله، فمنهن من ينتظر قدومه كل عام، قبل بدء موسم المونة التشريني، ومنهنّ من يفضّل الابتعاد عن «وجعة الراس» بقدوم أو عدم قدوم المبيّض، إضافة إلى التكاليف «اللي مش بمحلها اليوم».
الحاجة مريم يونس تؤكد حرصها الدائم على أوانيها النحاسية وتلك القدور التي تستخدمها في تحضير المونة على اختلاف أنواعها من المربّيات إلى مكدوس الباذنجان، وذلك بتبييضها كل صيف استعداداً للمونة الشتوية، وتقول: «لا أنكر استخدامي للأواني الحديثة في طبخاتي اليومية، إلا أن نكهة المونة لا تكون مميزة إلا في الأواني النحاسية التي ما زلت أحتفظ بها».
بدورها، رأت «أم طوني» أن التبييض نظافة للأواني والتحف النحاسية، وأنها تنتظر كل عام قدوم المبيّض قبل موسم المونة، ولفتت إلى أن مهنة التبييض بدأت بالاندثار بالنظر إلى عدم رغبة الناس في استخدام النحاسيات، وإلى تخلي المبيّضين أنفسهم عن هذه المهنة التي باتت لا تؤمن لهم الدخل والمردود الذي يحميهم وعائلاتهم من الجوع.
أما سعاد أحمد فترى في المسألة «وجعة راس»، لمجرد انتظارها المبيّض من جهة، ولما يتطلبه النحاس من عناية مع كل استعمال من جهة ثانية، مشيرةً الى أنها تعتمد على «أهلها وبيت عمها» في تأمين مونتها السنوية، وتفضّل استعمال الأواني الحديثة التي لا تحتاج إلى تبييض، بل إلى القليل من التنظيف المنزلي!
ومن البقاع إلى قرية الوزاني، على مقربة من الخط الأزرق، يجلس علي فواز 60 عاماً من بلدة جويا الجنوبية، محاطاً بمجموعة أوان نحاسية كونه امتهن التبييض وسيلة عيش اعتمدها طوال عقود من الزمن. مهنة يعتزّ بها ويفتخر، تعلّمها منذ الصغر ودأب على ممارستها، فباتت جزءاً من حياته ورفيقة عمره. عدّته متواضعة، وزبائنه باتوا معروفين لديه، مهنته أكسبته معرفة واسعة لغالبية المناطق اللبنانية لدرجة أنه بات يعرف زبائنه بالأسماء، ينتظرونه من وقت إلى آخر، وتربطه بهم علاقة مميزة.
ويقول علي فواز، الوحيد الذي يتردد على منطقة القطاع الشرقي من جنوب لبنان: «هذه الحرفة لاقت رواجاً واسعاً حتى ستينيات القرن الماضي، ومع مطلع السبعينيات بدأ العد العكسي نتيجة التراجع أمام الصناعات الحديثة للأواني المنزلية، وباتت الأواني النحاسية تحفاً تتصدّر صالونات القصور والبيوت الفخمة. نشاطنا اليوم يقتصر على القرى الفقيرة حيث أصحاب المواشي والمزارعون ممن يستخدمون الأواني النحاسية القديمة». وعن أجرة تبييض القطعة الواحدة قال: «السعر يخضع لحجم الوعاء وحالته، لكنه يبدأ من خمسة آلاف ليرة، وقد يصل إلى ثلاثين ألفاً للوعاء الكبير. الأسعار تغيّرت بسبب ارتفاع المواد المستخدمة مثل القصدير والنشادر والغاز بدل الحطب. ويعود بالذاكرة إلى الوراء حين كان يحمل كيساً من الجنفيص، همّه جمع الأواني من البيوت وإعادتها أكثر لمعاناً ونظافة».
وتقول أم أسعد: «نحن نعمل في تربية المواشي، وننتج كمية من الحليب، نستعمل الأواني النحاسية الكبيرة مثل «الدست» لغلي الحليب وتحضير اللبن، وهناك أوعية أخرى تستخدم في العجين لتحضير الخبز. هذه الأواني ما زالت قيد الاستعمال لتعذر شراء بديل منها بسبب ارتفاع الأسعار».
تجدر الإشارة إلى أن عملية التبييض تبدأ بإشعال النار ووضع الوعاء المراد تبييضه فوقها لتسخينه، وفي هذه الحالة يستعمل ملقط طويل لتحريك الوعاء فوق النار، وعندما يصبح جاهزاً تبدأ عملية التبييض بوضع قليل من القصدير وفركه بقطعة من القطن مشبعة بالملح والنشادر. ويعتبر القصدير المادة الأساس لكونه يعطي الوعاء النحاسي لوناً أبيض وتختلف أسعاره باختلاف مصادره، ونسبة استهلاكه تختلف باختلاف حجم الوعاء، من الملعقة حتى الكركة التي قد تبلغ كلفة تبييضها حوالى مئة دولار، ويقلّ الأجر حسب نظافة القدور والأواني.
تعليقات: