كامل مهنا من نيران الحرب إلى الجائحة

الدكتور كامل مهنا
الدكتور كامل مهنا


لا يمتلك الدكتور كامل مهنا روايات فاسدة، حين يشكّك أصحاب الروايات الفاسدة الواحد بالآخر على طول البلاد وعرضها. سلاله في كفيه. لا يخفي الرجل سلاله في جيوبه، لأنه لم يرد، يوماً، أن يتخصّص في وضع الأزهار على القبور إثر وفاة من انتابهم الدوار من فرط الجوع والحاجة. لا يتعامل كجباة الضرائب ولا ينام في برميل، لأنه يمتلك العلاج، الترياق، بعيداً من لؤم التعاطي مع المحتاجين. لا يوقف أحداً أمام المرآة لكي يرى نفسه، على ما هي عليه وهو يقيم الهندسات الاجتماعية على قواعد البحث بالأسباب والتعامل مع النتائج بدون إدانة أحد، لأنّ السلوك غابة لا شجرة. غابة يضاء ظلامها بالسراج والفتيل. لذا يمتلك قوة الحفر. الأهم أنه يمتلك الهوامش لكي يمارس الحفر بقوة في حياة الآخرين، بعدما نذر نذوره بالتركيز على إضاءة البقع السوداء في حيواتهم. لا إرابة عنده في العمل الاجتماعي، لأنه وضعه داخل النهار وخارج الليل. وضعه بالوضوح، بعيداً من الأفعال الطارئة. وبقلب الأفعال الطارئة حين احتاج الأمر إلى الأفعال الطارئة، تحت إشارة أو تحديق أو معلومة موثوقة، جرى اختبارها على مدى أيام طويلة. العمل الاجتماعي غد. هكذا هو عند طبيب ألغى انشغالاته، لكي يبقى العمل الاجتماعي حياً، لا تستطيع الرياح تحطيمه تحت أي ظرف. لم يعد العمل الاجتماعي كسوراً، بعدما مضت نهارات وأيام مهنا بتطويره ووضعه على الأكمات العالية، حتى أضحى رؤوساً تشرق الشمس عليها إذا أشرقت ولا تغيب، لأنه لا يسمح لها بالغياب أو التناثر كأطياف لا تنبري إلا للبحث عن أجسادها وراء خيمة أو شيخ أو حرب.

لا يظهر الرجل بذراعين من فرط عمله في المجال الاجتماعي. لا يهيبه جرف ولا سقوط فكرة، لأنّ الأفكار لدى دكتور مهنا تمتلك حياة كالإنسان. لذا تخلق وتموت. يمتلك مهنا ألف ذراع، بعيداً من سعادات الديوك، من يجدون سعادتهم بنفخ حبة حنطة إلى مدينة حديدية، إلى مدينة من حديد. لن يترنّح بالهواء وهو يقف تحت شمس ضيقة أو قمر محدود، أو يقفز كلمح بالأوان، دائماً بالأوان، ينضج بناء مركز جديد أو ينعطف إلى معالجة ما ضاع من روح اللاجئ السوري بأيام إسمنته أو يحاول أن يخرج مرضى الكورونا من بين أيدي شياطين الظلام. هذا رجل لا يهدأ بحركة تشبه حفيف النار. لا يشطر التجربة إلى نصفين، نصف للعمليات على الأرض ونصف لمشاركة الاختصاصيين والجمهور، ما تثيره العمليات من غبار من خلال الكتابة أو التدوين، لأنه يجد فيهما صورة واحدة. وهو الأدرى بأن التدوين ضرورة، لا من أهمية الكلمة وحدها، لأن الكلمة مُكلفَة على ما يقول حكماء العرب... لأن التدوين يغيب بصالح برامج الراديو القديمة والحديثة وبرامج التلفزيون ذات الحركات الثقيلة. غياب التدوين محنة بلا نهاية. هذا في إحساسه، هذا في إدراكه. ولأنه حساس ومدرك، يقدّم الطاقات المركونة في صناديق الذاكرة والذكريات في مؤلفات. مؤلف أو مؤلفان أو ثلاثة. لا مؤلفان أو ثلاثة في العام الواحد. لا همّ، ما دام الهدف هو الغاية والغاية هي الهدف. أن لا تغيب نوطة من جملة أو جملة من مؤلف. ذلك أن غياب التدوين، غياب مجموعات كاملة من الصور. وغياب الصور، غياب المتاع. حتى إذا جاء جيل جديد، وجد نفسه في لحظات الرقص والتسلية لا في لحظات قطف فاكهة الموسم وتقديمها للآخر. أكل الفاكهة وزرع بذارها ، ليرتفع الشجر من جديد. هذه من العمليات ذات الطبائع الحياتية. لا الإلهام . الأخير : بإدراك أن حماية طرق الزراعة، حماية الأرض، حماية للأشجار وعدم تحولها عند الأجيال المقبلة إلى أشجار محرمة. أو أشجار في بستان بعيد لا يدركها بصر ولا نظر. التدوين هو بصر الآخر ونظره. بصر من جاء بعد التجربة ليجد نفسه في العراء حين يغيب التدوين يتراكم التراب أو الثلج فوق التجربة، التجارب، ما يؤلف حياة كاملة. كأن لا أجساد للتجارب. وإذ تغيب التجارب يغيب حضورها ليقع من لم يشارك فيها في عبودية التخمين.


يعالج الكتاب المأزق الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي بما قادت إليه سياسات الطبقة الحاكمة في لبنان

لن تحتار الخطوات أمام مدونات الدكتور كامل مهنا وهي تدق أبواب المستقبل، من أجل أن يغرس بالرؤوس حياته في حياة الآخرين، حتى تستويا في حياة واحدة. لا يريد الرجل أن يبهر، لكن ما يفعل يبهر في احترافه تدوين ما يقوم به، ليقطف من يجيء بعده من قطافه. وإذ لا يرغب في نقل الحكم ينقل الشوق، ليحصل الآخر من الجيل الآخر، الحِكَم من شوق الدكتور كامل مهنا إلى العمل الاجتماعي كهاوٍ يطرق الضربة الأولى في هذا المجال. هو المحترف الأبدي، من لا يجد نفسه وحيداً في هذا الخضم ولو غاب الآخرون عن الخضم هذا. شراكة هو العمل الاجتماعي عند من أفنى نفسه في لسعات أظفاره. علقت أظفاره على جسده، وبدل أن يتألم، وجد في حفر الأظفار مساراته المستقرة. هكذا، يحرص على صناعة ملحمة البقاء مع «الآخر» لأن الملاحم شغل الجماعة. ضربٌ من سكر عتبه فوق عرائش عنب الجمعيات والمؤسسات والجماعات والتجمعات. مدونته الجديدة بعنوان «الصحة من نيران الحرب إلى تداعيات الجائحة ـــ مؤسسة عامل والقطاع المدني يواجهان تفكك المجتمع اللبناني». الأهم في الرواية أنها لا تنتمي إلى مناخات أو هواء الـ «أن. جي. أوز»، مهرقة الخمور في أقبية الآخرين، من يسقونها ويسرقونها في آن، حيث يتبعونها بالأموال ثم يتبعون الأمر بكل أنواع مجادلات الأبراج، حتى تسقط في ألقها المزدرى، ثم التكلف، ثم المعاتبات، ثم النهايات. كلام الاعتدال لا الأناشيد في كتاب الدكتور مهنا، رئيس «عامل» والمنسق العام لتجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان، والمنسق العام لتجمع المنظمات الأهلية العربية والخبير في منظمة الصحة العالمية. اعتدال التجربة من المساواة بين البشر على الأرض. لا فروق بين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، من تجمعهم الحاجة على الحاجة. استعراض الإشكالات على الأرض لأطوار المشاكل، ثم فرك الحلول بين الأصابع بدون عجرفة. ذلك أن رواية هذه «العذابات المرحة» (بين المكاتب والمضارب) لا تمضغ المعاني وهي تقدمها ببراعة الشغل على الأرض لا بالوصف ولا بالإعادة ولا بالغضب. يمتلك الدكتور مهنا مستواه العالي، ما يسمح له باصطياد القضايا والحلول بروح رحبة، بروح من حرير. هكذا، يقارب الواقع الصحي برواء يشبه رواء السواقي. كوفيد ــ ١٩ أكبر الحرائق. نزف بشري لا يتوقف وهو يسحق على مختلف المستويات الاقتصادية والصحية والاجتماعية والنفسية.

ما في الكتاب يتخطى الكتاب، حين ينقله مهنا بنفس خبير يقوم على تشكيل النصوص الاجتماعية الجديدة، لا بنفس على حافة الغياب، إلى الرأي العام وهو يردد أنا لا أؤمل بشيء للنفس حين نتصدى للموت المتدحرج على كل ألوان الفناء مستنفداً الناس والحياة، بدون مدائح. لا تترك التجربة البشر طوع الموت. التدوين شقيق الرواية. الرواية ضد الموت، كما حدث مع شهرزاد وهي تمارس السباق مع المواجع الخشنة لشهريار. إنه في كتابته كمن ينشر لبوس حمايته على الآخرين، جميعهم. لن يبدأ الآخر، الشاب، لن يبدأ من الصفر بوجود المدون ما يقدم فيه المُدوِّن خلاصة أشغاله، كلامه، إصغائه، عبوره من رقم إلى رقم ومن جذر إلى جذع. ينطلق من «القطاع الثالث» (هيئات المجتمع المدني) بروحه التطوعية المطواعة للخروج من جوع الصوت إلى قسم الحرية. عدم السماح بالسيطرة على الناس من الحاجة حرية لا تتوسل الرأفة بأشخاصها ولا مجالسها. وحين يتقدم الرجل مطبقاً على الأحوال الجديدة، تتقدم الأرض من تقدمه. لا سلاح سوى التحديق ومدّ الأيدي وتعليق الخرز على الأعناق المنذورة للذبح.

يعالج الكتاب المأزق الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي بما قادت إليه سياسات الطبقة الحاكمة في لبنان. كلام على الطبيعة العلاجية للخدمات وارتفاع كلفة العلاج الصحي إلى ضرورة تحقيق نظام صحي لا ينكشف، كما انكشف في أول تحدٍّ كبير مع كوفيد ــ ١٩، إلى اعتماد خارطة صحية وطنية بشكل مبدع وخلاق. الإبداع طريق مهنا المفضل. لسانه الموثوق، كماله بعيداً من جاه من لا ينفك يعلن انتصاره في وسط الهزائم المدوية. لا يريد مهنا أن يضحي المواطن مسخاً كمسخ كافكا ولا صرصوراً كصرصور دوستويفسكي. يريده على سواحل الكرامة لا يتتبع آثار الآخرين، كهول الطبقة السياسية ولو بدا بعضهم شباناً في مجالسهم الكهرمانية. خروج من القياد والانقياد الرأسمالي إلى بحر العلاقة المباشرة، الشفافة، في المواطن. التفكير الإيجابي ماء الدكتور مهنا. ماء لا معتل ولا يتجمد تحت البرد ولا يسيح في الحرّ. يسمى الأمر نهجاً. نهج يمتلك سماته وسلوكه الخاصين. نهج تجرّد من كثرة الاستعمال. تجرد من تجرد ومن تجريد. الأساس في التجريد هو التفكير والبحث عن الكمال على الأرض بعمليات لا تقع أحجامها بالأحجام العادية. نهج مجرد، جرده الشغل المستمر، ما حوّله إلى واقع وهو يقفز من الضرورة إلى التحقق. هذه عملية معقّدة لا بسيطة على ما يبدو. والتجريد تجويد، التجريد استراتيجية بسيطة لا مبسطة، لا يحرق التبسيط البساطة. ذلك أن مهنا لا يعتبر التبسيط ولده ولا حفيده. البساطة تقطير التجارب وصولاً إلى اتباعها كما يتبع الغطاس الماء. لا رسوم بيانية لأن بحر العمل على الأرض هو أول الرسوم وآخرها. ثم يجيء التدوين، يتدحرج على الورق كما تتدحرج السفن على سطح الماء. تدوير وتعبير وتصوير. التجريد وصول هذه كلها إلى مرحلة التحقق كما يتحقق صياح الديك على أزرق السماء. لا حياة فظّة بعد انتصار الإنسان. انتصار الدكتور مهنا للإنسان بفكره ذي الشروح المؤثرة انتصار الإنسان للإنسان وانتصار الإنسان بجراحه، بعد تحويلها إلى جراح متزنة. الكتاب صيد حياة كاملة، حياة يتلقّفها الإنسان بيدين حرّتين على الأيدي الممتدة من الصدوع. إنها التجربة المحتملة في تدوين التجربة، حتى لا تبدو شجرة مهجورة أو ميزاناً مختلاً تكال فيه الأحمال كما لو أنها أكياس عظام الإنسان. إنه في مدونته الجديدة، بكل مدوناته، إنما يقترح اشتقاق المفاهيم بالانطلاق من المبادئ الأولى وتطبيقها، ثم تطويرها من خلال وضع الحصاة على الحصاة، لبناء الجسر، جسر عبور التجربة ومحركاتها من جيل إلى جيل، باختزال وتكثيف مجموعة من المجالات، تحتوي آلاف الملاحظات والظواهر. ما يفعله الدكتور مهنا خروج الرسام من محترفه، بمبدأ خيانة الحائط لا الناس.


تعليقات: