يوسف غزاوي: تزوير الأعمال الفنّيّة.. الإبداع الرديف


تشغل قضيّة التزوير حيّزاً كبيراً من قضايا العالم، من ضمنها تزوير الأعمال الفنّيّة التي تعود بداياتها إلى عصور قديمة، فمنهم من يرجع بداياتها إلى عهد الفراعنة، ومنهم من يعيدها إلى العصر الإغريقيّ اليونانيّ؛ بحسب هؤلاء إنّ الفنّانين الإغريق هم أوّل من وضعوا إمضاءهم على الأعمال، وحينها بدأ تزوير الأعمال في أوروبا.

لا يقتصر التزوير على اللوحات الفنّيّة (من رسم وتصوير) بل تعدّاه إلى النحت والمصنوعات المختلفة التي تندرج تحت إطار الفنّ أو الآثار.

عام 1923 استقبل الغاليري الوطنيّ في لندن لوحة مُنفّذة بتقنيّة الزيت والتمبرا على الخشب، لوحة وحيدة لفنان لم يكن معروفاً في القرن الخامس عشر في روما قريباً من الفنان «ميلوزّو دا فورلي» (1438-1494). عرف الخبراء أنّ العمل مزوّرٌ من خلال المادّة الموضوعة مع اللون؛ فالمواد القديمة تقاوم مع مرور الزمن عندما نحاول حكّها بواسطة القطن المبلّل بالكحول «اختبار الكحول». هذه الحالة لم تتناسب مع هذا العمل الملوّن حديثاً. فاكتشف المختصّون تزوير العمل، وكذلك عناصر اللوحة كالمدينة والأشخاص.

إنطلاقة وإندفاع التزوير في الفنّ زادت وتضاعفت في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في وقت تحوّل فيه النسخ إلى مؤسّسات. شجّع على هذا ذلك امتداد تجارة الفنّ حين درج ما يُسمّى «كاتالوغ البيع»، فأصبحت القاعدة حينها امتلاك عمل فنّيّ. تكمن هذه الظاهرة في الاندفاع نحو تجميع الأعمال الذي تحوّل إلى ترفٍ وتباهٍ شارك فيه الأمراء والارستقراطيّون.. ويُعتبر القرن التاسع عشر العصر الذهبيّ للتزوير الفنّيّ.

تمّ عبر التاريخ تزوير أقنعة تعود للمرحلة الإتروسكيّة وجمجمة من الكريستال وقطعاً أركيولوجيّة وتماثيل وأعمال تعود لعصر النهضة وما بعده، وأعمالاً انطباعيّة وما بعد انطباعيّة وحديثة ومعاصرة منوّعة. تمّ تزوير أعمال الفنان «فان غوغ»، ويقوم البعض بتنفيذ نسخ منها بسعر (11 يورو) فقط.

للحدّ من هذه الظاهرة، وكيلا يقع الزبائن في كمين التزوير وتجّاره، أقام متحف اللوفر - الذي كان بدوره ضحيّة هذا الأمر - أوّل مختبر لكشف الأعمال المزوّرة عام 1931 وهو مركز أبحاث وترميم المتاحف في فرنسا (C2RMF)، يقوم بخدمة 1220 متحفاً في فرنسا عبر تقديم طلب له لفحص أحد الأعمال المشكوك فيها.

عام 1923 تلقّى متحف اللوفر رأساً صغيراً من الزجاج المصريّ يعود للمرحلة الفرعونيّة أثناء حكم الأسرة 18 التي حكمت مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ساور الشكّ بعض الخبراء حول الأسلوب المصنوع منه الشعر المستعار وخطوط الفمّ. تمّت فيما بعد معاينة هذا الرأس في المتحف عام 2001. أخضع الخبراء ثلاثين قطعة مشابهة من الزجاج الأزرق لنفس المرحلة للتحليل من أجل الحصول على عيّنة من التركيب الكيميائيّ لهذه الأجسام ولمعرفة التقنيّة التي استعملها صنّاع الزجاج المصريّين. كانت النتيجة: التركيب الكيميائيّ لنموذجين من الزجاج، المؤلّفين للرأس في اللوفر، لا يتلاءم أبداً مع زجاجيّات الأسرة 18 المذكورة.

تعدّت أسماء أشهر المزوّرين في العالم: كين بيريني، وولفغانغ بلتراتشي، هان فان ميغرين، كيرت جان جانسن، الخ. من المزوّرين المحدثين الذين زوّروا أعمال عصر النهضة «إتشليو فيديريكو جوني»، ومن بعده «أمبرتو جيونتي».

على صعيد النحت فإنّ أكثر النحّاتين الذين زُوّرت أعمالهم هم «رودان» والأخوين «ألبيرتو» و«دييغو» جياكوميتي... أمّا في الرسم والتصوير فتطلعنا لائحة كبيرة من الأسماء يأتي على رأسها «رامبراندت» وهناك أيضاً «فيرمير» وذلك ابتداءً من القرن الثامن عشر. لوحة رامبراندت المشهورة المعنونة «الرجل ذو القبّعة الذهبيّة» تمّ تزويرها بإتقان فذّ، لم يتمّ التأكّد من ذلك إلّا من خلال الإمضاء المشكوك فيه. وكلّنا شاهدنا الفيلم السينمائيّ الذي يتناول تزوير أعمال الفنان الهولنديّ رامبراندت، ووصول الأمر إلى المحكمة التي طلبت من المزوّر القيام بالعمليّة داخل المحكمة لتُصدّق أنّ العمل الموجود أمامها مزوّر وليس أصليّاً..

الغريب في أمر التزوير أنّ الشاعر الفرنسيّ «أبولينير» قد دافع عام 1903 عن جماليّة التزوير في مقالة له في المجلّة الفرنسيّة «المجلّة البيضاء» لعمل بعنوان «التاج» الذي استقبله اللوفر عام 1896 معتقداً أنّه عمل أصليّ. أشاد الشاعر بهذا العمل متغنّياً به، وقد أنهى مقالته بقوله: «... على كلّ حال، الأعمال المزوّرة لا يجب أن تُخيف أحداً، كلّ مدينة تمتلك مزوّريها بشكل يُمكن القول أنّه رسميّ». هي إشادة بالعمل المزوّر وجاليّته والبراعة في تنفيذه بغضّ النظر عن شرعيّته أو عدمها.

في العالم العربيّ لا يختلف الوضع عنه عمّا في الغرب، باستثناء أنّ الغرب له عدّته وتقنيّته في كشف الخداع الفنّيّ وفي محاسبة المزوّر عبر قوانين تحكم هذا الشيء (هناك قانون في فرنسا يُجرّم المزوّر بالسجن سنتين مع دفع غرامة ماليّة كبيرة في حال تمّت إدانته)، في حين أنّ المشرق العربيّ يُعاني من هذه الآفة التي يقع ضحيّتها الفنانون أصحاب الأعمال والزبائن الذين لا حول لهم ولا قوّة؛ ففي لبنان، حدّث ولا حرج، هناك غياب للقوانين الرادعة ممّا يجعل الساحة عرضة للتلاعب والغش. في الغرب يعمد بعض المزوّرين إلى تقريب حامل الوحة المزوّرة إلى حامل اللوحة الأصليّة عبر دراسة النوعيّة والزمن الذي صُنعت فيه، الخ. بينما هذا الشيء لا يحصل في العالم العربيّ لتخلّف المزوّر تقنيّاً قياساً للغربيّين. لقد تمّ تزوير أعمال فنانين كبار من العالم العربيّ ومن ضمنه لبنان، ولا سيّما رعيل الروّاد. أمّا أبرز الفنانين الذين زُوّرت أعمالهم في لبنان فنذكر عمر الأنسيّ، مصطفى فرّوخ، بول غيراغوسيان، صليبا الدويهي... وفي العالم العربيّ، فاتح المدرّس ولؤي كيالي. وهناك تزوير من نوع خاص في لبنان، فحين يعمد أحد المقتنين إلى ترميم عمل يمتلكه بعد تعرّضه للتلف، يقوم المرمّمون، أو الوسطاء، بإبدال العمل بعمل مزوّر منسوخ عنه، فينطلي الأمر على مالك العمل... سنكتفي بهذا المثل درءاً للمشاكل.

التزوير آفة اجتماعيّة قديمة الولادة والوجود، هي نوع من الغشّ والسرقة الأدبيّة بهدف الخداع والربح المادّيّ، لكنّها في الوقت عينه تحمل إبداعاً لا يقلّ أهمّيّة عن عمل الفنان الأصليّ. لقد فرضت عمليّة التزوير نفسها وجماليّتها في العالم، ممّا حدا ببعض الدول الأوروبّيّة إلى إنشاء متاحف خاصّة لها في بلدانها! هي إشكاليّة هذا العصر المعقّد.

* د. يوسف غزاوي (أستاذ جامعيّ، فنّان تشكيليّ وباحث)

تعليقات: