العدد الإجمالي للبنانيين العاملين في السعودية وبقية دول الخليج يبلغ حوالى 500 ألف شخص (Getty)
لم تُقدم السعودية ودول الخليج على خطوة إبعاد المهاجرين اللبنانيين، رداً على التصريحات المهينة لوزير الخارجية اللبنانية، شربل وهبة. كان من الممكن للأزمة الدبلوماسية الخطيرة، الناتجة عن تصريحات وهبة المتهورة والعنصرية بحق مواطني الجزيرة العربية، أن تؤدي إلى تدابير عقابية تتمثل في ترحيل اللبنانيين المقيمين في دول الخليج. لحسن حظ هؤلاء، لم تقع "الكارثة". أو لم تقع بعد! لا أحد يتمنى لهم مصيراً كهذا، على المستوى الفردي والعائلي. أكثر من ذلك، خسارة هؤلاء لمورد رزقهم في دول الخليج ستؤدي إلى حرمان عائلاتهم في لبنان من موارد مالية لا غنى عنها في ظل الانهيار المالي والارتفاع الحاد للأسعار. أي ستفاقم أكثر فأكثر الأزمة المعيشية في البلد.
مشكلة بنيوية
إذا كان من المستحسن تفادي مشكلة من هذا النوع اليوم، إلا أن ذلك لا ينفي الحاجة إلى مناقشة مسألة هجرة اللبنانيين إلى الخارج عموماً، وإلى دول الخليج بشكل خاص، بوصفها واحدة من تجليات مشكلة لبنان البنيوية. فهجرة "الكادرات" اللبنانية المهنية والعلمية إلى تلك الدول، هي نتيجة خلل مزمن ومتعمّد في الاقتصاد اللبناني. خلل ناتج عن إصرار القوى الاجتماعية الحاكمة، المكونة من أوليغارشيين، كبار المصرفيين، وكبار المقاولين ورجال الأعمال، على النموذج الاقتصادي الريعي، الذي يخدم أهدافها بتحقيق أرباح طائلة وسريعة، حتى لو حصل ذلك على حساب مستوى معيشة غالبية السكان. وحتى لو كرّس ذلك محدودية النظام الاقتصادي في توفير وتنويع فرص العمل.
هذا النموذج الاقتصادي جعل من لبنان واحداً من أكثر الدول التي تشهد هجرة إلى الخارج، في العالم. في المرحلة التي بلغت فيها وحشية هذا النموذج ذروتها، خصوصاً بين عامي 2016 و2019، تجاوز عدد المهاجرين اللبنانيين إلى الخارج عتبة الـ125 ألف مهاجر، حسب أرقام متداولة في أوساط الباحثين في مؤسسة "الدولية للمعلومات". ومن المرجح أن تكون أرقام زمن الانهيار، اعتباراً من عامي 2020 و2021، مرتفعة أكثر. بغض النظر عن تعدد وجهات المهاجرين اللبنانيين في السنوات الأخيرة، وعن عدد الذين اختاروا دول الخليج كوجهة لهم، تشير الإحصائيات من مصادر متقاطعة، إلى أن العدد الإجمالي للبنانيين العاملين في السعودية وبقية دول الخليج يبلغ حوالى 500 ألف شخص.
شروط الانفجار
هذا الرقم مرشح للارتفاع في الفترة المقبلة بسبب الانهيار الاقتصادي والمالي وهرباً من بطالة مستفحلة وفقر لا يُحتمل. لكن هذا الرقم ضخم أصلاً. وهو يعني أنه في حال قررت السعودية ودول أخرى أن تترجم "غضبها" الدبلوماسي من لبنان، بعقاب جماعي للمهاجرين، عبر ترحليهم من أراضيها، سيكون لعودة نصف مليون لبناني من الخليج، إذاً، تداعيات مختلفة من وجهة نظر جغرافية ــ سياسية. يتعلق الأمر هنا بمقاربة "جيوبوليتيك" هجرة اللبنانيين إلى الخليج العربي، من زاوية محددة تتعلق بنتائج عودتهم المحتملة على الداخل اللبناني.
إذا كانت أسباب هجرة هؤلاء تتمثل في الوضع الاقتصادي المتقهقر، وفي تواتر الأزمات الاجتماعية والمالية والأمنية، وفي البطالة، إلا أن عودتهم في ظل الظروف والشروط الاقتصادية والسياسية الحالية، ستكون بمثابة كارثة اجتماعية. في ظل غياب أي إرادة سياسية للتغيير وللنهوض بالبلد على أسس اقتصادية جديدة، سيرتفع معدل البطالة نسبةً إلى عدد السكان. من شأن ذلك أن يؤثر سلباً على ما بقي من سوق عمل، لناحية التسبب بمزيد من انخفاض في معدل الأجور. ذلك أن لبنان سيشهد ارتفاعاً في نسبة الطلب على العمل مقابل انخفاض نسبة العرض في فرص العمل. ستتراجع حتماً القدرة الشرائية لشريحة من اللبنانيين الذين يعتمدون على أقربائهم أو أبنائهم العاملين في الخليج، وهو ما يخفف عنهم أعباء الانهيار الحاصل. بمعنى آخر، ستتوفر مزيد من شروط تهديد "السلم الاجتماعي". ستنضج أكثر فأكثر ظروف "الانفجار الاجتماعي" الكبير.
الهجرة والمعارضة
عودة المهاجرين اللبنانيين من الخليج، في حال تم ترحيلهم، لن تؤدي فقط إلى مزيد من زعزعة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان. ثمة فرضية أخرى تتمثل في احتمال أن تؤدي عودة كهذه إلى إعادة زعزعة "الاستقرار السياسي" الذي لا يزال ينعم به النظام اللبناني، منذ تراجع موجة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين 2019.
هذه الفكرة ليست من صنع الخيال أو نتاج تكهنات. إنها في صميم الملاحظات الجغرافية ــ السياسية حول تأثير العوامل الديموغرافية والهجرة على قوة الدول وعلى أوضاع الدول. لا بد من الرجوع هنا إلى طروحات الباحثين الفرنسيين، بيار رينوفان (Pierre Renouvin)، وجان باتيست دوروزيل (Jean-Baptiste Duroselle)، في كتابهما: (Introduction à l’histoire des relations internationales)، الصادر عام 1964، والذي لا يزال "ذات صلة ومفيداً" في العصر الراهن، حسب مقدمة الباحث (وزير خارجية فرنسا الأسبق)، أوبير فيدرين (Hubert Védrine)، في طبعة جديدة للكتاب، تعود للعام 2010. رينوفان ودوروزيل يقولان: "من وجهة نظر سياسية، فإن الهجرة كانت تعتبر عموماً كضمانة للسلم الداخلي"، لأنها "وفّرت مَنْفَذاً للساخطين الاجتماعيين الذين يمكنهم أن يشكلوا، يوماً ما، جحافل حركة ثورية" في بلدهم الأم، ولأنها تؤدي أيضاً إلى إبعاد "بعض خصوم النظام أو الحكومة" في الدولة الأم.
بمعنى آخر، يتعامل أي نظام سياسي استبدادي أو فاسد وظالم، مع الهجرة بوصفها فرصة له. لأنها تريحه من المعارضين، وتتيح له تنفيس الاحتقان السياسي أو الاجتماعي نحو الخارج بدل من انفجاره في الداخل بوجه النظام نفسه. هكذا، تخسر الحركة الاحتجاجية كوادرها الشابة التي تطالب بالإصلاحات الاقتصادية وبالتغيير السياسي، فتكون رائدة في التحركات وفي الانتفاضات والتمرد ضد هذا النظام. وهذا ما يحصل في لبنان منذ انتهاء انتفاضة "17 تشرين".
الانتهازية والتزلف
لمزيد من فهم استراتيجية النظام اللبناني في هذا الصدد، لا بد من الرجوع أيضاً إلى طروحات الباحث الرائد في تطوير المدرسة "الجيوبوليتيكية" الفرنسية، إيف لاكوست (Yves Lacoste)، في كتابه: (La géographie, ça sert, d’abord, à faire la guerre). وهو يثبت كيف أن القوى الحاكمة تستخدم الجغرافيا كأداة في خدمة هيمنتها. أي تتعمّد تنظيم الحيز المكاني والجغرافي بما يخدم سيطرة القوى الحاكمة على السكان والأرض معاً. يمكن الاستنتاج إذاً أن إصرار القوى الحاكمة في لبنان على عدم إعادة النظر بالنموذج الاقتصادي الذي يتسبب بارتفاع نسبة الهجرة، فضلاً عن تعميمها لـ"ثقافة" الهجرة لدى الشباب، بطريقة تشجع هؤلاء على ترك الوطن بحثاً عن شروط حياة أفضل، هما جزء من سياسة تندرج ضمن رؤية "جيوبوليتيكية" تتعامل مع الهجرة، كمعطى جغرافي ــ سياسي، بوصفها "أداة سلطة"، وأداة لتمكين القوى الحاكمة من السيطرة المستمرة على لبنان واللبنانيين.
هذه الحسابات الاستراتيجية للنظام اللبناني تدفعه إلى تجنب إثارة غضب السعوديين والخليجيين، كي لا يتخذ هؤلاء قراراً عقابياً جماعياً، يقضي بترحيل المهاجرين اللبنانيين من أراضيهم. فيتسابق المسؤولون والحكام في لبنان على مجاملة السعودية ودول الخليج، ويتزلفون لها، انطلاقاً من موقف انتهازي نفعي، كاذب وغير مبدئي، تحترفه النخب اللبنانية الحاكمة، كلها من دون استثناء. يبذلون الجهود لإرضاء واسترضاء السعوديين والخليجيين ليس لأنهم يحرصون على مصلحة المهاجرين اللبنانيين، ومستوى حياتهم، والوضع المعيشي لأهلهم وأقاربهم في لبنان. بل لأنهم يخشون، بمكان ما، من أن تؤدي عودتهم إلى احتمال تكوين "جيش احتجاجي"، من مهاجرين عائدين، ساخطين، قادرين على قلب الطاولة على الحكام.
عودة نصف مليون لبناني إلى البلد من شأنها أن تفتح الباب واسعاً أمام احتمال قيام موجة جديدة من الانتفاضة وتسريع وتيرة تغيير هذا النظام. وهو نظام يفضل بكل وضوح "هجرة الأدمغة" على إطلاق سياسات حوكمة رشيدة وخطط تنموية قادرة على تطوير وتنويع الاقتصاد وخلق فرص العمل، بما يكفي لاستيعاب أكبر نسبة ممكنة من حاملي الشهادات المهنية والجامعية، بدلاً من "تهجيرهم المتعمّد" إلى خارج أرض الوطن.
تعليقات: