كانت جبال لبنان و شواهقه فيما مضى، مرتعا ً للجوارح من الطير، تتعالى وتتهاوى في جلد سمائه، وتبني أعشاشها من على ذرى صخوره وجلاميده ، من أهمها وأرفعها قوة وهيئة ً كان النسر، الذي كانت تهابه كل الكواسر المـُحلـِّقة في الفضاء ، والحيوانات الصغيرة الدّابـّة في البر ِّ والقفر.
وكان هناك معاز يرعى قطيعه في تلك الصرود، فأُعجب بذلك المخلوق اللا حم ، ملك الطيور الذي يزعق مُتشامخا ً مُصفـِّقا ًبجناحيّه الطويلتيّن ، فتارة ً يميل بهما الى الشمال وتارة ً الى اليمين ، وطورا ًيبسطهما ليتهادى مُختالا ً فوق تموجات وتيارات الأثير . فراح ذلك الراعي على مرّ الأيام يُراقبه ويُلاحق حركاته وتحركاته ، وهو ينقضّ على فرائسه ذوات الريش في الهواء ، وذوات الوبر من القوارض والأرانب وحتى الثعالب على الأرض .
تتبـّعه وهو يبني عشـّه ، فصمـّم على سرقة فرخ ٍ من فروخه ، هذا إذا ما إستطاع تجاوُز المصاعب من مسالك الوعر ، للبلوغ الى حرمة الوكر .
وبعد جهد ٍ وتعب ٍ مُضنيـّين ، تمكـّن من الوصول إليه ، فوجد في داخله بيضتين كبيرتين فإنتهزها فرصة ، وثابر على زيارة المكان ، حتى تفقـّستـّا ، فأخذ أحد الفرخين الى منزله ووضعه تحت أرياش دجاجة ـ قرقة ، بين حضنة ٍ حديثة ٍ من الصيصان ، وأصبح منذ ذلك الحين الشغل الشاغل له ، يهتم به ، ويُطعمه بما يتلاءم وجهازه الهضمي من المأكولات ، كاللحم والحشرات .
وإستمر على هذه الحال حتى نما وكبـُر ، وزاد شحمه ودسمه ، فإمتلأ وأسمن ، وأشهب لونه وأدغم ، فتماثل بالشكل والحجم والمنسر والمخلب بالنسور ، أمّا فيما تبقي ّ من مُميزاته وقدراته الذاتيّة ، فقد فقدها بالتـّدجين ، إذ أنه ظل ّ لصيقا ً بأصناف الدجاج ، يُرافقها أينما توجهت ، وينام معها في خمـِّها ، وما كان يطير حتى يعود ويحط ّ في وسطها ، يخطو وراءها ويحذو حذوها ، يقلد عاداتها ، ويلهو معها ويُنقـِّب في التراب مثلها ، بحثا ًعن الطعام من النمل والديدان .
وهكذا إستقرّ نمطُ حياته ، إلى أن فاجأه يوما ً أحد الواويـّة ، فمخر له بطنه وأكل لحمه ، ليُصبح محط َّ عار ٍ وذُل ٍ ومهانة ٍ لبني جنسه ، إذ أنـّه كان أول نسر ٍ يستقرُ في جوف حيوان.
أمّا الذين هم على شاكلته من جنس بني البشر ، فهم كـُثر لا يُعدّون ولا يُحصون لا سيما في مجتمعنا اللبناني ، ففي كل بلدة ٍ وقرية ، وفي كل حي ّ ٍ من أحياء المدن والضواحي ينشأ الأوادم والطيِّبون من أبناء البيوت والعائلات الكريمة والمحترمة ، والذين يُستبان عن حق ٍ ، بأنهم يتمتعون بالخصال الحميدة والأخلاق العالية ، وبالسلوكيات المُستقيمة والرشيدة ، ويتحلـّون بنقاوة الضمير ونظافة الكف ، فيُحسبون لنا مثالا ًوقدوة ً ، بهم نتمثـّل ونقتدي ونهتدي ، وعليهم نعقدُ الآمال ، ومنهم نرتجي الخير والصلاح ، ولكنهم ويا للأسف ، ما أن يدخلوا عالم القيادة والمسؤوليّة ، ويتبوأون فيه المراكز الحسّاسة ، وينخرطون في الوظائف والمهمات العامّة والهامّة ، في مختلف المجالات والميادين ، وخاصة ً السياسيّة والإداريّة والماليّة منها ، حتى يتدجـّنون ويتآلفون والأجواء الفاسدة ، والطبقة النتِـنة والعفِـنة ، السارقة والمارقة ، المتلصّصة والمتخصّصة بالسلب والنهب ، المؤلفة من معظم مسؤولينا ومدرائنا والقيّمين على مؤسساتنا ومرافقنا ومقدّرات بلدنا ، فيتخلون عن شهامتهم وكرامتهم ، وعن أخلاقهم وفضائلهم ، التي سبق أن إكتسبوها بالتربيّة من أبائهم وأُمهاتهم وأهلهم ، ليتشابهوا ويتماثلوا ويتجانسوا بالنهج والفعل والخـُلق ، بجماعة معشرهم الجديد وأترابهم وشركائهم من أصحاب القبائح والمفاسد والمساوىء ، والإفك والغش والتمَسكـُن والنفاق .
الحقيقة أني أربأ بهؤلاء المنحرفين ، الإنحطاط والإنحدار من عُلى الإنفة والرفعة والكرامة والشرف الى درك الخِسّة والضِّعة والهوان والقرف ، وأرفع الصوت بالقول عاليا ً على مسامع اللبنانيّين من الشباب الواعد ، هيّا إبقوا يا سادة يا كرام كما تربيتم نسورا ً في القـِمَم ، ولا تكونوا مَربى الدجاج في الخِـمَم .
تعليقات: