سبق وتناولنا في دراسة سابقة موضوع الهويّة الفنّيّة في العالم، ومن ضمنه لبنان، وتوصّلنا إلى ما مفاده أن لا هويّة جماعيّة كما جرت العادة بالحديث عنها، بل أنّ الأمر لا يتعدّى كونه أكثر من هويّة فرديّة تتعلّق بالفنان الفرد، وما يُنتجه، وقد أعطينا أمثلة كثيرة على ذلك (أنظر كتابنا: محطّات تشكيليّة، منشورات الجامعة اللبنانيّة، 2018).
إذاً، هناك هويّة فنّيّة فرديّة تبعاً للفنان المُنتج الرائد، وما يُمثّله فنّه وعطاؤه ورؤيته وتجديده في الفنّ. فهل ينطبق هذا الشيء على الفنانين في لبنان؟ إنّ فرضيّتنا، الراديكاليّة، تقوم على النفي (نفي الهويّة الجماعيّة والهويّة الفرديّة). سنحاول في هذه السطور الإجابة عنها، وتأكيدها بما يلي:
لقد عرّفنا تاريخ الفنّ عبر العصور على وجود أساليب ومدارس فنّيّة شتى تنوّعت، وتعدّدت تبعاً لمعطيات فكريّة وعقائديّة، أرخت بثقلها على نتاجات الفنانين وعطاءاتهم، بدأت بالعمل الجماعيّ، ما قبل توقيع الفنان لعمله، وصولاً إلى بدايات هذا التوقيع، الذي يُعيده البعض إلى الفن الأغريقيّ اليونانيّ، وبداية ما يُسمّى «الاعتراف بالفرد كمُنتج مستقل». كانت الفنون قديماً تقوم على العمل الجماعيّ في خدمة الآلهة والدين والإقطاع.. قبل أن تتحرّر من هذا العبء الملقى على الفنانين وتجاهل شخصيّتهم وإنسانيّتهم التي لم تعرف امتدادها إلا مع قدوم عصر النهضة، وما تلاه، فأصبحنا نسمع بفنانين مُبدعين ترنّ أسماؤهم في أسماعنا، وتلمع في عيوننا لما أعطوه للبشريّة من أعمال رائدة مُبدعة؛ أسماء كثيرة اعتدنا عليها: ميكال أنجلو، دافنشي، رافاييل، دورر، رامبراندت، فيلاسكيز، فيرمير، الخ، وإن كان البعض منهم بقي مرتبطاً بملك وسيّد واقطاعيّ إلا أنّ شخصيّته كان لها حضورها وسرديّتها.
ما هو واقع الفنّ في بلدنا لبنان؟ نسمع الكثير عن جيل الرعيل الأوّل، وجيل الروّاد، وغيرها من التسميات التي يتناقلها البعض كالببغاء، ويُعلي من شأن هذا الفنان وذلك الفنان تبعاً لانتماءات مُعيّنة أو تكرار لما يقوله البعض دون تمحّص ودرس وتحليل. يُعيد البعض بداية الفن في لبنان إلى عصور وقرون مضت! عن أيّ لبنان يتكلّمون، جغرافيّاً أم سياسيّاً أم إداريّاً أم ديموغرافيّاً؟ وما هو العمر الزمنيّ له؟ نعرف أنّ لبنان ككيان يعود عمره إلى بدايات القرن الماضي، وكدولة مستقلة تعود إلى أربعينيّات ذاك القرن، ليس أكثر. بدأ الفنّ في هذا البلد دينيّاً (كنسيّاً)، كغيره من الأمكنة والدول في العالم قبل أن يتطوّر مع الزمن ليُصبح مدنيّاً حسب التطوّر العالميّ. كان للاستعمار والانتداب الدور في تشجيع الفن والفنانين بالسفر نحو الخارج، وبالأخصّ أوروبا، ولا سيّما فرنسا وإيطاليا لدراسة الفنّ والتعلّم على يد الفنانين الأجانب ليقوموا بالتأثّر بأعمالهم، والنهل من أساليبهم، فجاءت الأعمال نسخاً وتقليداً لها، ولمّا تزل حتى الآن! ما الذي جاء به الرعيل الأوّل من ابتكارات سوى اجترار لفناني الغرب عبر رسم البورتريه بشكل رئيس. وماذا أنتج رعيل الروّاد (يا لهذه التسمية!)؛ نحن نعرف أنّ الرائد، أو الطليعيّ، هو من يُبدع أعمالاً ويُقيم حركة فنّيّة غير مسبوقة قبل رعاية الدولة للفنّ. نعترف لهؤلاء دورهم في الإضاءة على هذا النوع من العطاءات الإنسانيّة (ونقصد بها الفنّ) ليس أكثر. أمّا القول أنّهم أنتجوا أعمالاً مُبتكرة مجدّدة تبعتهم بذلك الأجيال الأخرى (كجيل الأكاديميّة مثلاً) فهو ليس أكثر من نكتة سمجة. قد لا يعجب البعض هذا الكلام. لا يهمّ. المهمّ هو قول الحقيقة والإضاءة على الكذب الذي نعيشه في هذا البلد الفذّ.
دعونا نعطي أمثلة عمّا نقول: داوود القرم (وجوه ومناظر واقعيّة)، حبيب سرور (أعمال واقعيّة)، خليل صليبي (واقعيّة وانطباعيّة)، جبران خليل جبران (وليام بليك الانكليزي، والفرنسيّ بوفي دو شافان، والرمزيّين)، يوسف الحويّك (منحوتات طبيعيّة)، مصطفى فرّوخ، سيزار الجميّل، عمر الأنسي (أعمال انطباعيّة)، صليبا الدويهي (واقعيّة وانطباعيّة ومدرسة الحافّة الصلبة الأميركيّة)، فريد عوّاد وإبراهيم مرزوق (التعبيريّة الألمانيّة)، وقس على ذلك الأسماء الأخرى الكثيرة كالبصابصة وإيفيت أشقر وسلوى روضة شقير وجان خليفة ومنير عيدو وسعيد عقل (السورياليّة والفنون الشرقيّة والبدائيّة سبق رؤيتها) وبول غيراغوسيان وأمين الباشا ووجيه نحلة وجوليانا ساروفيم وحسين ماضي (الايطالي ريكاردو ليكاتا)، سمير أبي راشد (سلفادور دالي). لو تطرّقنا إلى جيل الروّاد الذين نتغنّى بهم وبأعمالهم، ماذا قدّموا لنا سوى ألوان وأشكال على قماشة تحاكي أساليب الفنانين الغربيّين الكبار دون أيّة إضافة وتجديد؛ رفيق شرف (ميرو، صبحي التيناوي، التعبيريّين الألمان وغيرهم..)، شفيق عبّود (مدرسة باريس وغنائيّتها)، رشيد وهبي (وجوه ومناظر انطباعيّة لا تجديد فيها سوى براعة في التنفيذ)، هيلين الخال (نسخة عن الفنان الأميركيّ مارك روتكو)، عارف الريّس (التعبيريّين الألمان والسورياليّين). اعترف عارف الريّس في مقابلات معه بما نقوله والأخذ عن الغرب دون إضافات)... هيلين الخال تدعو إلى اتباع الاتجاهات الغربيّة في الفنّ... أسماء كثيرة أعطت أعمالاً تُعدّ نُسخاً لأعمال الفنانين الأجانب ومدارسهم وتيّاراهم دون أيّة إضافة تُذكر! هذا يُقلّد بولياكوف، وذاك يُقلّد ماكس إرنست، وآخر يُقلّد بيكاسو، وغيره يُقلّد رودان، آبّل، آليشنسكي، البنائيّين الرووس، دوستايل، سيزان، رينوار، ماتيو، فان غوغ، بونار، كلي، ماتيس، تابيس، والسُبّحة تكبر.. السبب هو غياب الهاجس، وحضور التقليد. هناك فنانون لبنانيّون، صحيح، ولهم أعمالهم، صحيح، لكنّها أعمال لا ترقى إلى مستوى الإبداع والتجديد والابتكار، غير المرئيّ سابقاً، وإلا كانت الكتابات الغربيّة ملأى بالإشادة والتغنّي والتغزّل بها، وكانت مرجعاً للفنانين الأجانب (يشهد الله على ما أقول، إنّ الفنان شفيق عبّود ذكر لي، أثناء تواجدي في باريس للدراسة، إنّ سبب غيابنا، كفنانين عرب، عن المشهد التشكيليّ العالمي، هو عدم إتياننا بشيء يُذكر، ولا يعود السبب إلى أمور لها علاقة بالعنصريّة أو الدين أو العرق). فهل حصل هذا بالشيء؟ بالطبع لا. أنا فنّان لبنانيّ، وأعترف بعجزنا، رغم محاولاتي الإتيان بما هو جديد وجوهريّ في بعض محطّاتي، وكان لي نجاحات في الخارج. الفنّانون الأجانب يمتلكون طاقة فكريّة وفنيّة غنيّة عملاقة ومنوّعة، ويندر أن نجد فنّاناً غربيّاً، بدءاً بـ»دافنشي»، مروراً بـ»دورر»، وصولاً إلى وقتنا الحالي، لا توجد لديه كتابات وآراء وعمق فكريّ واطلاعات على فنون التاريخ والحضارات وربطها بفنون الزمن الذي يعيشونه للإتيان بما يُحاكي الخلق والإبداع والتنويع والتغيير.. فأين فنانونا من هذا الشيء؟!
أمّا جيل الشباب، والأجيال الحاليّة الواعدة، فإنّ الحكم عليها مبكرٌ لأوانه، فقد تكون تجربتهم تكراراً لما سبقها إن لم تأخذ همّ التجديد عنصراً أساساً في عطاءاتها، لكن في وضع البلد المتردّي أنّى يكون لنا هاجس التجديد والابتكار في زمن الفساد والفوضى والتزوير والكذب وكساد الأعمال والاعتباطيّة التي تُسيطر على السوق الفنّيّ وتسعير الأعمال؛ أسماء تصدح في الأجواء لا نعرف كيفيّة بروزها وإعلاء شأنها، والنقد يُعاني من الغياب والتخصّص. أحد الفنانين الذين يتهافت البعض على أعماله لم يدرس قط الفنون التشكيليّة، بل جاء من اختصاص آخر، ووجد من يُسوّق له عمله. هذا الفنان الفذّ كان يطلب منّي العمل معه في محترفه لأعلّمه كيفيّة خلط الألوان والرسم، هو حاليّاً من الأسماء الكبيرة في هذا البلد الفذ، بينما أعمالنا وأعمال الكثيرين ترقد في مضاجعها، في هذا البلد الطائفيّ الذي يُصنّف فنانيه تبعاً لمنطقتهم ومذهبهم وعلاقاتهم! جاء أحد «قياصرة» النقد في لبنان إلى معرضي في باريس عام 1988ليكتب عنّي مقالاً لإحدى الصحف اللبنانيّة المعروفة، ولما علِم بطائفتي والمنطقة التي وُلدتُ فيها (ردّاً على سؤاله) خرج مهرولاً من معرضي وسط دهشة الحضور من أصدقاء وفنانين لبنانيّين. في حين إنّ صحافيّاً فرنسيّاً كتب عنّي مقالاً في صحيفة «الموند» الفرنسيّة، في نفس العام، دون وقوفه عند طائفتي وانتمائي وجنسيّتي. الوجع كبير والمعاناة أكبر، لكنها حقيقتنا التي لا يقبلها البعض وهذا سبب من أسباب تخلّفنا ودمارنا.
بربّكم أوقفوا هذه المهزلة وهذا الاجترار والتكرار المملّ لمقولات الريادة والتفرّد عند الفنانين اللبنانيّين (المحظوظين منهم في الإعلام)، ولا تستعملوا كلمة «الفنّ اللبنانيّ» لعدم وجوده. إرحمونا، يرحمكم من في السماء..
* د. يوسف غزاوي
أستاذ جامعيّ، فنان تشكيليّ وباحث
تعليقات: