حالات سكن الزوجين مع الأهل لا تصمد أكثر من ثلاثة أشهر (أرشيف)
لم تسلم تكاليف «القفص الذهبي» من نيران الأزمة الاقتصادية التي دفعت كثيرين من المُقبلين على الزواج إلى تأجيل «الفكرة»، أو حتى إلغائها. وعليه، يعود خيار سكن الزوجين مع الأهل إلى الواجهة كبديل «شبه وحيد» للمصمّمين على الارتباط بالرغم من تحذير الاختصاصيين بأن هذا الخيار قد لا يصمد لأكثر من ثلاثة أشهر. وفيما يتزامن تراجع معدلات الزواج مع تراجع معدلات الإنجاب، ترتفع الهجرة النهائية في صفوف الشباب، ما يؤدي إلى تغيير في الهرم السكاني وزيادة التعمّر التي تعطّل التنمية الاقتصادية وتترك أعباء مادية ثقيلة على المجتمع اللبناني
15 عاماً قضاها فادي حمّود (33 عاماً) خلف مقود سيارة الأجرة ليحقق حلمه بالزواج. ادّخر معظم ما كان يجنيه ليؤمن مستقبلاً كريماً لأسرته الموعودة... إلى أن حلّت الأزمة الاقتصادية. صرف فادي بعض ما ادّخره في موجة الغلاء، فيما تآكلت القيمة الشرائية لما تبقّى، «وما عادوا يكفّوا حق غسالة»! أمام هذا الواقع، بات متيقّناً من أن القطار فاته، وهو لا يزال في «المحطة الأولى»، وأن عليه أن يبدأ «من جديد».
بدورها، سعاد تركت خطيبها رغم الوعود الكثيرة بألا تفرّقهما الظروف، وبأن يجتمعا «على الحلوة والمرّة». لكنّ مرارة الأزمة أقوى من أن تُحتمل لتحمّل مسؤولية الزواج وتكوين أسرة. هي أستاذة رياضيات تتقاضى نصف راتبها منذ بداية الأزمة. وهو عاطل من العمل بعدما خسر عمله في أحد الفنادق في بيروت إثر انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020. تقول إن «نصف الراتب الذي أتقاضاه لا يعادل كلفة إيجار شقة صغيرة، فمن أين نؤمّن أساسيات العيش إذا تزوّجنا؟». ضغوطات الأهل «الخائفين على مستقبل ابنتهم» و«انعدام الأفق بتحسن الأوضاع» لدى الطرفين وضعا حدّاً لحب دام سنوات.
في دراسة لـ«الدولية للمعلومات»، استناداً إلى أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية، يتبيّن تراجع معدلات الزواج عام 2020 بنسبة 13.5% مقارنة بعام 2019، و17.9% مقارنة بمتوسط الأعوام الخمسة الأخيرة (2015 - 2019). وهذا «طبيعي جداً»، وفق مسؤولة الدراسات في «مركز أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي» سحر نور الدين. «فالمجتمع اللبناني يعيش صدمة الانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا، لذا يعيد التفكير في اتخاذ قرارات مصيرية كالزواج، كما لا يبدو في الأفق أمل بالتغيير في المدى المنظور، ما يزيد من حالات اليأس وفكّ الارتباطات».
ولعلّ ما يزيد صعوبة الخطوة، هو «ارتباط تكوين الأسرة بالحاجة الاقتصادية الكبيرة وبرفاهية معينة تستلزم تكاليف باهظة»، وفق عضو مختبر الأنثروبولوجيا في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ليلى شمس الدين، مُشيرةً إلى «عوامل أخرى تتداخل مع العامل الاقتصادي»، أهمها «الصورة النمطية للزواج في الإعلام الجماهيري المحلي والوافد: علاقة معقّدة تتطلب تحمّل مسؤولية مرهقة». بالتوازي مع «تخويف الشباب من فشل الزيجات والوقوع في مشاكل الحياة الزوجية وصعوباتها»، لا تنكر شمس الدين وجود أزمة اقتصادية تخلق تحديات أمام الشباب المقبلين على الزواج، لكنّ «العالم الرقمي الذي نعيش فيه يخلق رغبات جديدة ويرفع مستوى طموحاتنا. فارتبط تكوين الأسرة بحاجة اقتصادية كبيرة وبرفاهية معينة تفرض تكاليف باهظة».
تراجع معدلات الزواج عام 2020 بنسبة 17.9% مقارنة بالأعوام الخمسة الأخيرة
«لم تكن أحوال اللبنانيين المعيشية في فترة الستينيات أفضل ممّا عليه اليوم. مع ذلك كان الزواج متاحاً، لأن متطلبات الحياة كانت أقل تعقيداً، والبنية الاجتماعية والقيم السائدة آنذاك كانت تسمح بسكن الزوجة مع أهل الزوج»، بحسب نور الدين. الانطلاق من هذا «السرد» يُعدّ ضرورياً لطرح النقاش المتعلّق ببروز خيار سكن الأزواج مع الأهل إلى الواجهة ومدى إمكانية تطبيقه في يومنا هذا.
الباحث المتخصّص في علم اجتماع الأسرة زهير حطب يؤكد أنه رغم أن خيار السكن مع الأهل بات «ربما الخيار شبه الوحيد المتاح»، إلا أن التجارب أثبتت حديثاً أن هذا الخيار يفشل «ولا يصمد لأكثر من ثلاثة أشهر. إذ سيرفض الشاب، الزوج أو الزوجة، الذي اعتاد الاستقلالية تدخلات الأهل بخياراته والضغوطات التي سيفرضونها عليه».
«مركز أمان»، من خلال سلسلة دراسات يعدّها، يعمل على تشجيع ما يمكن تسميته بالمساكنة... مع الأهل، وذلك عبر «إحياء هذا النموذج القديم تدريجياً، من خلال منظومة اجتماعية وقيمية تساند هذا الحل من دون الوقوع في مشاكل زوجية ونزاعات بين الحمى والكنّة». إلا أن هذه الجهود، على أهميتها بالنسبة إلى الساعين فيها، تبقى قاصرة عن معالجة التحديات التي تطاول شكل الأسر «المُستقلة» نفسها. فوفق حطب، أكثر من نصف العائلات الجديدة يهاجر أحد طرفيها لتأمين مصدر رزقها، فيما الطرف الثاني يقود العائلة وحده، «ما يخلق تحديات لها مفاعيل مهمة على شكل الأسرة واستمراريتها».
الجدير ذكره أن تراجع معدلات الزواج يتزامن مع تراجع في معدلات الولادة التي سجّلت عام 2020 انخفاضاً بنسبة 14.5% مُقارنة مع عام 2019 وبنسبة 16,2% مقارنة بمتوسط الأعوام الخمسة الأخيرة (2015 - 2019). وبحسب حطب «تراجع معدل الإنجاب من 3.2 للأسرة الواحدة قبل سنتين إلى 2 اليوم، وهو معدل الإحلال الديمغرافي، بمعنى أنه كل طرف ينجب فرداً واحداً يحلّ مكانه بعد وفاته». وهذا يؤدي إلى «تحوّل الهرم السكاني من هرم فتيّ إلى هرم يغصّ بكبار السن، وبالتالي زيادة التعمّر، التي تعطّل التنمية الاقتصادية وتترك أعباء مادية ثقيلة على المجتمع اللبناني»، وفق نور الدين مُشيرةً إلى أن الهجرة النهائية خاصة في صفوف الشباب مع ما يرافقها من تراجع معدلات الزواج تؤدي ديمغرافياً على مدار سنوات إلى «نمو سكاني سلبي» بدأت ملامحه بالظهور.
«مئة مليون ليرة» كلفة تجهيز منزل عروسين
يارا سعد
أطبق تضخّم الأسعار الخناق على كلّ مناحي الحياة، وصار الزّواج وتجهيز منزل حلماً لمعظم الشّباب الّذين يتقاضون رواتبهم باللّيرة، هذا إن كان الراتب متوفّراً نظراً إلى ارتفاع نسبة البطالة، ولا سيّما بين هذه الفئة. وإذا كانت بعض مستلزمات الحياة قد بقيت عند مستويات ما قبل الأزمة تقريباً، كإيجارات المنازل ورسوم الكهرباء والغاز وغيرها، غير أن تأثيث المنزل وتجهيزه، مثلاً، صارا أقرب إلى الخيال». إذ «ارتفع مؤشر أسعار الاستهلاك للأثاث والتجهيزات المنزلية 655% بحسب الإحصاء المركزيّ بين كانون الأوّل 2019 وكانون الأوّل 2020. ومع نهاية 2021 ستكون الأرقام أكثر تضخّماً»، بحسب مؤسس «مرصد الأزمة» ناصر ياسين. وبما أنّ الزّواج من الأمور التي لا يمكن إيقافها، «فالناس بحاجة إلى التواضع، لأنه لم يعد بمقدور كثيرين العيش كما السابق، أو اللجوء إلى خيار الصناعات المحلّيّة».
«في الحد الأدنى يحتاج المُقبل على الزواج اليوم إلى مئة مليون ليرة ليجهّز منزلاً متواضعاً، هذا إن افترضنا أن المنزل متوفّر»، يلخّص أسامة، صاحب محلّ أدوات منزلية وكهربائية، حال المقبلين على الزواج في ظلّ الأزمة. «سابقاً كان يحتاج الشاب إلى 15 ألف دولار أي 22 مليون ليرة ليفرش بيته، اليوم كم تساوي الـ 15 ألف دولار؟»، لافتاً إلى أن الغسالة التي كان سعرها 600 ألف ليرة صارت تُكلف بين 4 و 5 ملايين ليرة، والبراد الذي كان سعره 900 ألف ليرة صار اليوم بين 10 ملايين ليرة و13 مليوناً. وإذا كان التقسيط سابقاً واحداً من التسهيلات التي تحفّز الزبائن على الشراء، إلا أنه اليوم «لا يمكن الحديث عن التقسيط أبداً»، لأن الشركات الكبرى توقّفت عن تقسيط البضائع لأصحاب المحالّ، وهؤلاء بدورهم لم يعودوا قادرين على «تديين الناس. نحن نعيش في بلد لا نعرف ماذا سيحصل فيه غداً، ولا إن كان سيبقى موجوداً بعد شهرين، فكيف نقسّط؟».
ارتفع مؤشر أسعار الاستهلاك للتجهيزات المنزلية 655% بين كانون الأوّل 2019 وكانون الأوّل 2020
صحيح أن الأسعار ارتفعت بالليرة اللبنانية نتيجة انهيار العملة، إلا أنها لا تزال كما هي بالدولار، «بل انخفضت» بحسب سعيد، صاحب أحد محالّ بيع الأدوات المنزلية، «فرسوم الجمارك والـTVA لا تزال على أساس 1515 ليرة لبنانية. من يتقاضون رواتبهم بالدولار لم يشعروا بتغيّر أيّ شيء، عكس مَن راتبه مليون ليرة بالكاد يكفيه للأكل والشرب، فكيف سيشتري غسالة؟».
جولة سريعة في بعض الصالات وعلى المواقع الإلكترونية، تظهر الهوة الساحقة بين ما آلت إليه الأسعار بالليرة وبين الحدّ الأدنى للأجور وما يتقاضاه اللّبنانيّ شهرياً. وأمام الارتفاع الحاد في الأسعار، حاول كثيرون إيجاد «مخارج» تساعدهم على تجهيز منازلهم. البعض لجأ إلى الأدوات الكهربائية المستعملة أو إلى «البالات» لشراء «البيّاضات». في حين أنّ عدداً لا يستهان به من الشباب اتّخذ «قراراً لا يمكن الرّجوع عنه»... بالعزوف عن الزّواج.
تعليقات: