(شريف طاهر)
في غرفة صغيرة في منزله في عيتا الشعب، جلس أبو أحمد يفرم أوراق التبغّ بواسطة آلة بدائية حادة لصناعة محتوى سجائر «اللف». الأزمة الاقتصادية دفعت كثيرين إلى العودة إلى السيجارة البدائية؛ إما بسبب ارتفاع ثمن السجائر المستوردة أو علامة «سيدرز» المحلية التي تصنعها إدارة حصر التبغ التنباك (الريجي)، أو بسبب بحث مزارعي التبغ عن مورد رزق إضافي.
هذا النوع من السجائر كان شائعاً قبل استيراد علب السجائر الجاهزة. إذ كان المدخنون يلفّون سجائرهم يدوياً في كل مرة رغبوا في تناولها. لذلك اصطلح على تسميتها بـ«سيجارة اللف». فيما توافق آخرون على تسميتها بـ«تاتلي» و«بافرا» نسبة إلى أسماء علامات تجارية محلية من النوع نفسه. التدخين سابقاً لم يكن هيّناً. علبة معدنية صغيرة يضعها المدخن في جيبه، تحتوي على دفتر أوراق بيضاء رقيقة، تقابلها كمية من التبغ المفروم بشكل ناعم. يحشو المدخن الورقة بالكمية التي يريدها من التبغ، قبل أن يلفها ويلصقها بلسانه. غاب ذلك المشهد بشكل كبير، لا سيما عن المدن، حتى اقتصر على الهواة وعلى كبار السن في الأطراف النائية.
أخيراً، عاد المشهد إلى التداول لسببين: الأوّل، استعادة البعض للعادات البدائية بعد ارتفاع كلفة العادات الحديثة بعد الأزمة الاقتصادية المستمرة. وفيما خص التدخين، ارتفع سعر السجائر المحلية والمستوردة لأضعاف. فوجد هواة نوع اللفائف وسواهم، وفراً مادياً في استبدالها بالسجائر الجاهزة، فضلاً عن ادعاء كثيرين بأنها أقل خطراً صحياً من السجائر المصنعة.
أمّا السبب الثاني، فهو اتجاه عدد من مزارعي التبغ إلى إحياء صناعتها في بلداتهم. وهم يسعون إلى البحث عن مورد إضافي بعد تردي قيمة المردود المادي الذي تشتري به الدولة محصولهم السنوي، بالمقارنة مع ارتفاع سعر صرف الدولار.
وفق أبي أحمد، فإن هذه الزراعة التي كانت مصدر عيش مئات المزارعين الجنوبيين، الذين يعملون مع عائلاتهم طيلة أيام السنة، باتت مكلفة أكثر من مردودها. فهي «تحتاج إلى السماد الغالي الثمن، والمياه الشحيحة، وأكياس الخيش والخيطان التي ارتفعت أسعارها بشكل فاحش أيضاً، فيما لم ترفع الريجي أسعار شراء المحاصيل»، على حدّ تعبيره. وهدف المزارعين برفع مردودهم تلاقى مع هدف المدخنين بتخفيض كلفة تناولهم للسجائر.
ازدياد الطلب
"في حال لم ترفع الريجي سعر كيلو الدخان، فلنزرع بندورة. الكيلو حبتين ب٦ آلاف". هكذا اختصرت ليلى يعقوب معاناة مزارعي التبغ في ظل الأزمة الإقتصادية. فهم يدفعون تكلفة زراعته على سعر صرف الدولار في السوق السوداء و يبيعون محصولهم على سعر الصرف الرسمي.
يقول أبو أحمد إنّ «تصنيع لفائف التبغ يحتاج إلى دراية وخبرة، تتعلقان بطريقة اختيار الأوراق وكيفية حفظها وتقطيعها». يجهد في تصنيع التبغ المر كما يجهد في زراعته. مع ذلك، يؤكد بأن «بيع التبغ المفروم هو حلّ جزئي ومغامرة بحدّ ذاته». ويضيف: «نريد استعادة رأسمالنا الذي ندفعه على زراعة التبغ التي لا بديل عنها. إلّا أن الريجي إذا علمت بصنعنا، سوف تمنعنا من الزراعة. عشرات الأهالي باتوا يطلبون شراء كميات كبيرة من التبغ المفروم، لكن الأمر يحتاج إلى أوراق تبغ جيدة، ونوعية تختلف بحسب طلب الزبون. البعض منهم يريد التبغ الأقل حماوة، وهذا مرتبط بنوعية الأوراق المزروعة، وطريقة ريّها».
وفيما تخصص البعض بصنع حشوة السيجارة اللف، تخصص آخرون بلفها لبيعها جاهزة على غرار السجائر المستوردة. اشترى حسين آلة صغيرة لتعبئة السجائر الفارغة بالتبغ المفروم، وهي آلة كانت رخيصة نسبياً (15 دولاراً)، قبل ارتفاع سعر الصرف، ومتوفرة في السوق المحلّي. أمّا كيلو التبغ المفروم فيتراوح بين 80 ألف و120 ألف ليرة لبنانية. الأمر الذي «يسمح بتعبئة حوالي 1200 سيجارة بحجمها الطبيعي». وهو سعر أغلى بكثير من سعر كيلو التبغ غير المفروم، الذي يتم تسليمه إلى الريجي، الذي لا يزيد عن 20 ألف ليرة.
يغامر مزارعو التبغ بمستقبلهم. ففي حال ضُبط أحدهم يتاجر بسجائر اللف، لسُحبت منه رخصة مزاولة مهنة زراعة التبغ التي تمنحها الريجي. ويحاول المزارعون والمدّخنون الهروب إلى الأمام، بهدف التوفير ومواجهة الأزمة المعيشية.
إحياء تاريخ مزدهر
غير أنهم، وربما عن غير عمد، أحيوا قطاعاً كان مزدهراً في النبطية وبنت جبيل، التي كانت تشتهر بهذه الصناعة حتى النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي. كانت زراعة التبغ حرة قبل احتكارها من قبل «الريجي»، التي أسسها الانتداب الفرنسي. كان تصرف لفائف التبغ المصنّعة إلى معظم المناطق اللبنانية، ويهرَّب جزء كبير من الانتاج إلى فلسطين وسوريا ومصر.
في الإطار، يستعرض المؤرخ مصطفى بزي، في كتابه «التكامل الاقتصادي بين جبل عامل ومحيطه العربي»، الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالتبغ. في أوائل الثلاثينيات، أنشأ بعض المزارعين الكبار عدة معامل لصناعة السجائر في جبل عامل، توزّعت بشكل رئيسي بين بنت جبيل والنبطية. منها ثلاثة معامل للصناعة في بنت جبيل، كان يعمل فيها حوالي عشرين عاملاً وعاملة بعضهم من حلب وفلسطين. وكان هناك ثلاثة معامل في النبطية ضمّ أحدها أكثر من 40 عاملاً. أمّا ثمن مبيع علبة الدخان فهو 30 قرشاً. المعامل صمدت حتى العام 1935، حين طُبّق نظام الاحتكار الحديث للتبغ. وطُلب من أصحاب المعامل إغلاق معاملهم، والتوقف عن العمل، والاشتراك كمساهمين في شركة الدخان اللبنانية السورية.
(شريف طاهر)
(شريف طاهر)
تعليقات: