بحيرة القرعون الجميلــة نائمـــة

سيّاح معدودون يوم الأحد الفائت يرغبون برحلة في القوارب
سيّاح معدودون يوم الأحد الفائت يرغبون برحلة في القوارب


تعتبر بحيرة القرعون المتنفس السياحي الوحيد في منطقة البقاع. يطلّ عليها عدد كبير من الفنادق والمطاعم في منظر رائع يختلط فيه أخضر الأشجار بأزرق المياه وأبيض جبل الشيخ، ما يجعلها من أجمل الأماكن في العالم... على رغم ذلك يتناقص عدد روّادها يوماً بعد آخر منذ عام 1997 لأسباب عديدة

إنه يوم الأحد. تيريز التي تملك وأخواتها مطعم «حورية البحيرة» جالسةٌ في المطبخ تشاهد التلفزيون، محاولة تقطيع الوقت وقتل الضجر. تنتظر زبوناً يملأ طاولة من عشرات الطاولات الفارغة في المطعم. أخوها إيلي يضع يده على خدّه وينظر إلى الطريق لعلّ السيارات المارّة تأتيه بالفرج.

هذا المشهد يختصر حالة السياحة حول بحيرة القرعون التي كانت تتدهور يوماً بعد يوم منذ نحو عشر سنوات، وزادتها الأزمة السياسية الحالية انحداراً. «الحالة مأساوية» تقول تيريز متحسرةً على تردّي الأعمال قرب البحيرة، التي يظهر تراجعها بنسبة كبيرة حسب تقدير تيريز، «تراجعت السياحة حوالى تسعين في المئة»، وبطبيعة الحال تكدست مواد المطعم الأولية في المخازن بسبب قلة السياح.

«كنا نأتي بالبضاعة من مشروبات وخضر ولحوم فلا تكفي حتى نهاية الأسبوع، أما اليوم فالبضاعة تكفي لأشهرٍ»، تقول. والحال هذه ليس من المستغرب أن يقوم أصحاب المطعم بكل الأعمال المطلوبة في المطعم: «كان يعمل لدينا خمسة موظفين، لكننا لم نعد بحاجة إليهم الآن في ظل هذه الظروف»، تقول. وفي محاولة للتبرير أكثر تؤكد أنه في السابق كانت المطاعم لا تفرغ من الروّاد أما الآن: «صار السائح الخليجي وحتى اللبناني عملة نادرة، فبالكاد نرى ابن المنطقة».

حال علي شرف، الذي يملك مطعماً ومسبحاً عند البحيرة لا يبدو أفضل بكثير من زميليه. يبدأ المقارنة من نهار الأحد الذي لم يكن يختلف عن غيره من أيام الأسبوع سابقاً: «كنا نعمل بشكل قوي كل أيام الأسبوع، أما هذه الفترة فبالكاد نعمل نهار الأحد». يضيف وهو يضرب كفّاً بكفّ «كان يعمل لدي 14 موظفاً من الفجر حتى النجر، أما اليوم فقد انخفض عدد العمال إلى 4 موظفين فقط». وهنا لا تستغرب إن وجدت العمال الأربعة يخدمون زبوناً واحداً. وإن وجد الزبون فهو إما مفاصلاً وإما مكتفياً بالسندويش، «تحولنا من مد الطاولات إلى لف السندويشات»، يشير ساخراً ثم يضيف غاضباً «خفّضنا الأسعار وما زال الزبون يربحك جميلة». وعلى الرغم من كل ذلك، ما زال علي المتشائم يفتح المطعم «كي لا ينبت فيه العشب اليابس ويحل الغبار ضيفاً غير مرغوب فيه».

بدورها تشكو ثريا عواضة التي تملك مقهى منذ أكثر من عشر سنوات «عدم وجود مغتربين»، وهي مثل كل العاملين في هذا القطاع لا تعتمد على السياحة كمورد رزق رئيسي «وإلا كنا متنا الجوع»، تقول. وإذا كانت هذه حالة أصحاب المطاعم والمقاهي فإن أوضاع مالكي القوارب لا تختلف كثيراً. وفي هذا الإطار، يقارن شوقي بين حالته بالأمس مع حالته اليوم، «تختلف من الأرض إلى السماء... كنت أقوم بنحو ثلاثين رحلة يوم الأحد، أما اليوم فلا أتخطى ثلاث رحلات». ويتساءل «هل يعقل أن قارباً ثمنه 15 ألف دولار لا ينتج 300 ألف ليرة في الشهر»، أما الـ300 ألف ليرة فهي ليست الربح الصافي، إذ «تتضمّن ثمن البنزين والصيانة وأجرة الطريق»، يعني «بدفع أكثر من نصف المبلغ».

ليس لدى كل مالكي القوارب صبر شوقي، فأحمد ترك مهنته في قطاع البناء واشترى قارباً عام 92، وكان ينتج له أضعاف عمله الأصلي «كنت أجني نحو مليون ليرة نهار الأحد في ذلك الوقت». إلا أنه عاد ليعمل في مهنته الأصلية عام 97 عندما تدهورت أحوال السياحة حول البحيرة.

وبالطبع تركت حركة السياحة المتردية بصماتها على الحالة الاجتماعية والإنسانية لدى العاملين في هذا القطاع. ويبدو أن حالة شوقي المأساوية قد دفعت أحد السياح للشفقة عليه فأعطاه «كارته» وعرض أن يوظفه في شركته في بيروت «أحسنلك من تعب القلب هون».

وإذا كان شوقي قد وجد من يوظفه فإن علي (صاحب مطعم) قد فضّل العمل المرّ، «اشتريت سيارة أجرة أعمل عليها في بحر الأسبوع»، وهذا الوضع أثّر أيضاً على مستوى تعليم أولاده الذين نقلهم من مدرسة خاصة إلى رسمية.

وفي ظلّ هذا الوضع، كان من الطبيعي أن تتقلص الشراكة في المؤسسات. «كنا شركاء، ذهب أحد أفراد الأسرة للعمل في قطاعٍ آخر لأن المطعم لم يعد قادراً على توفير لقمة العيش للجميع»، يشير أبو إيلي. وليس من المستغرب في هذه الحالة المزرية أن يقفل عدد من المطاعم، «لقد أقفلت أربعة مطاعم هذه السنة»، يؤكد أبو إيلي ويشير إلى أن هناك مشاريع سياحية تتضمن شاليهات كان يبنيها رجل الأعمال المعروف وائل عساف (الحبتور) وأوقف العمل بها عندما رأى الحالة السياحية المتدهورة.

وإذا كانت هذه هي آثار تدهور السياحة على البحيرة، فما هي الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج.

يبدو أن الأوضاع الأمنية المتردية تأتي في طليعة الأسباب التي أدت إلى تدهور السياحة حول البحيرة، وهي لا تعود إلى اليوم، وإن كانت الأوضاع الأمنية الراهنة قد زادت الطين بلّة، فوجود البحيرة في منطقة البقاع الغربي التي تتعرّض بين الحين والآخر لاعتداءات إسرائيلية جعل السياح، وخصوصاً الأجانب، يترددون بالمجيء إليها، «كل ما تطلع طيارة فوق المنطقة بيهرب كلّ السياح»، يقول أبو إيلي. أما الأوضاع الأمنية الراهنة فجعلت العديد من السياح يترددون في النزول إلى البحيرة ليلاً. «الساعة الثامنة لا تجد أي زبون»، يقول علي ويضيف «كنت أقيم حفلات موسيقية ليلاً أوقفتها بسبب تردي الأوضاع الأمنية».

وإذا كانت الغالبية ترى أن تراجع السياحة حول البحيرة يعود إلى تدهور الأوضاع الأمنية، فإن فئة أخرى ترى أن تراجع السياحة يعود إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، «الناس ما معها مصاري»، يقول أحمد ويضيف «إللي معو قرش عم يخبيه للمدرسة والمستشفى والمازوت أو البنزين...».

وعلى رغم أهمية الوضعين الأمني والاقتصادي في تراجع السياحة إلا أنهما ليسا الوحيدين، إذ يحتل تلوث البحيرة مرتبة مهمة بين تلك الأسباب، التي يعتبرها العديد من أصحاب المطاعم شائعة لا أساس لها من الصحة: «التلوّث موجود في النهر وليس في البحيرة»، يقول أبو إيلي ويضيف «الإعلام كان يصوّر الأوساخ والحيوانات الميتة على نهر الليطاني ويقول هذه البحيرة، ما يدفع السياح إلى عدم المجيء». والإعلام له دورٌ آخر إذ لم يسلّط الضوء على هذه المنطقة «التي تعتبر من أجمل المناطق في لبنان»، تقول ثريا، وبالطبع بعد الوضع الاقتصادي والأمني والتلوث، «كان للدولة حصتها، فالمنطقة مهملة من قبلها والطريق ضيقة ومحفرة ولا يمكن أن يمر عليها إلا سيارة واحدة».

لا يختلف رأي رئيس بلدية باب مارع (إحدى القرى المطلة على البحيرة) ميشال ساحلاني كثيراً عن أصحاب الشأن السياحي في تحديد أسباب تراجع السياحة حول بحيرة القرعون، إلا أنه لا يتفق معهم على تحديد الأولويات. وهو يرى أن السبب الرئيسي لتدهور السياحة «الكلام الدائم على التلوث من قبل الإعلام الذي أساء إلى المنطقة».

يضيف مستاءً: «التلوث موجود في كل لبنان، لكن لا ندري لماذا تضخم الصحافة تلوث البحيرة». وبطبيعة الحال للدولة التي أهملت المنطقة حصة من النقد، «الطريق ضيقة جداً»، مشيراً بإصبعه إليها «إذا التقت سيارتان فعلى إحداهما أن تقف لكي تمر الثانية، فكيف يمكن حافلات السياحة أن تمر من هنا؟».

ولا يتوقف إهمال الدولة عند مشكلة الطريق، فهي مسؤولة أيضاً بنظره عن تكرير مياه الصرف الصحي التي تلوّث البحيرة ونهر الليطاني.

وبالطبع لا يغفل الساحلاني الوضع الأمني المتردي الذي أعاده إلى الحروب الإسرائيلية المتكررة على المنطقة، وكذلك دور المواطن الذي تنقصه الثقافة البيئية، و«الذي يقطع الأشجار ويساهم في التلوث».

وإذا كانت هذه هي الأسباب، فما هي الحلول التي يقترحها؟

الحلّ الأول تركيب محطات تكرير مياه الصرف الصحي (يجري تركيبها حالياً)، لكن الساحلاني يتمنى أن «تُشغّل وألا تصبح ديكورات مثل غيرها». هذا بالنسبة إلى التلوّث، أما بالنسبة إلى الإعلام «فعليه تأدية دور بنّاء ونقل الحقيقة كما هي»، معتبراً أن الحل الجدّي يكون بوحدة الرؤية والتعاون بين اتحاد البلديات والوزارات المختصة ومصلحة مياه الليطاني.

بين ضفتين... اختلاف الأرض عن السماء

أنشئت بحيرة القرعون الاصطناعية عند إنشاء سد الليطاني عام 1959. تقع في منطقة البقاع الغربي وتبلغ مساحتها 11 كلم2. عندما يرتفع منسوب المياه في البحيرة (التي باتت تعتمد على مياه الشتاء أكثر من مياه النهر) تنزل المياه في طاقة كبيرة وتصب بواسطة عبّارات وراء السدّ. ويشكل نزول المياه في الطاقة منظراً رائعاً يجذب الناس لرؤيته، وهذا الأمر لا يحدث إلا نادراً في الأوقات التي يكون فيها منسوب الأمطار مرتفعاً، أي في فصل

الربيع.

يحيط البحيرة من الشرق سلسلة جبال لبنان الشرقية، ويطلّ عليها قريتان، القرعون وبعلول. هذه الضفة غير سياحية ومهملة بالكامل، وتتكدّس عليها بقايا النفايات الصلبة. وبدلاً من انتشار المطاعم والزوارق، يقوم عدد من مناشير الحجر (مصانع الحجر) بتشويه المكان من خلال المقالع التي جعلت من الأرض ودياناً من الخراب وتلالاً من الركام. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل تقوم هذه المصانع برمي نفاياتها، وهي عبارة عن كلس وبقايا أحجار، على الشاطىء، ويتمثل الاستثمار الوحيد لهذه الضفة بصيد

السمك.

أما الجهة الغربية فتختلف عن الشرقية كاختلاف الأرض عن السماء، حيث تنحدر عليها سلسلة جبال لبنان الغربية، من ناحية الشوف المكسوّة ببساتين التفاح والدراق والإجاص... ويقع على سفحها ثلاث قرى عيتنيت وباب مارع وصغبين. وينتشر على شاطئها عدد كبير من الفنادق والمقاهي والمطاعم

والمسابح.

والمنتزهات فارغة
والمنتزهات فارغة


تعليقات: