(هيثم الموسوي)
في ظل التدهور الاقتصادي والمالي، «عاد» كثر إلى الأرض والزراعة. «عودة» أربكها ارتفاع أسعار المبيدات والمخصّبات الكيميائية والشتول والبذور... ما دفع كثيرين نحو الزراعة العضوية لأهداف اقتصادية أكثر منها بيئية وصحية. فهل لا تزال هذه الزراعة ممكنة في الظروف التي نمرّ بها؟
لم تعر الحكومات المتعاقبة اهتماماً يذكر بالزراعة التقليدية، فضلاً عن الزراعة العضوية! ولم ترقَ الموازنات السنوية لوزارة الزراعة إلى أكثر من نصف في المئة من الموازنات العامة.
قبل نحو ربع قرن، جرت محاولات لإقرار استراتيجية وقانون لتشجيع الزراعة العضوية ووضع ضوابط ومعايير لها بتنظيم بيع المنتجات وإعطاء الشهادات لعدم استغلال المستهلك وغشّه. إلا أن هذه الاستراتيجية لم تناقش مع من يعنيهم الأمر في مراكز القرار، ولم يقرّ مشروع القانون، بل تحوّل، باقتراح من أحد وزراء الزراعة، إلى قرار وزاري غير ملزم، لم يقدّم أو يؤخّر.
كانت رؤية الاستراتيجية المقترحة تحويل الزراعة العضوية إلى نمط إنتاج زراعي مستدام للحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتأمين الغذاء الصحي والسليم للمستهلك، وتحسين معيشة المنتجين الزراعيين. وهدفت إلى رفع نسبة الإنتاج الزراعي العضوي، بشقّيه النباتي والحيواني، الى 5% من مجمل قيمة الإنتاج الزراعي اللبناني، على أن يترافق ذلك مع تطوير سوق المنتجات العضوية، من خلال بناء قدرات المشغلين العضويين وزيادة نسبة الإقبال على استهلاك هذه المنتجات. إلا أن دوائر القرار الزراعي في الدولة اللبنانية كانت ــــ ولا تزال ــــ خاضعة لرؤية تجار البذور وتجار الزراعة التقليدية الذين يعملون لمصلحة شركات المبيدات والأسمدة الكيميائية.
هل يمكن أن تكون الظروف قد تبدّلت اليوم، مع تغيّر المعطيات وفي ظل حال الانهيار الشامل وارتفاع كلفة مقومات الزراعات التقليدية؟ وما هي مميزات هذه الزراعة والمصاعب التي تعترضها، وكيف يمكن للمواطن العادي وصغار المزارعين اعتمادها؟
يعرف المتابعون لهذا الملف أن هناك استحالة، في مثل الظروف التي يمر بها لبنان، في الوصول إلى زراعات عضوية مئة في المئة، في ظل اضمحلال الدولة وغياب الإدارات الرسمية المنظّمة للقطاع، من البذرة إلى الأرض وطرق الزرع والرعاية، الى النقل والتوزيع والبيع، علماً بأن أهم مميزات الزراعة العضوية أن تكون ملتزمة، من ناحية اختيار البذار أو الشتول إلى طرق إعداد الأرض وطرق الزراعة والعناية لناحية المخصّبات ومكافحة الآفات إلى التوضيب والتخزين. فمن يرد أن يزرع عضوياً اليوم، لا يعرف، مثلاً، من أين يأتي بالبذور أو الشتول غير المعدّلة جينياً، لأنه ليس هناك من يراقب أو يؤكد نوعية البذور ومصادرها ويضمن حماية المزارعين من استغلال الشركات الاحتكارية التي عدّلت في جينات البذور. وهو موضوع خطير ما كان يفترض أن تترك إدارته للتجار كما مختلف القطاعات في لبنان.
استحالة، في مثل هذه الظروف، في الوصول إلى زراعات عضوية مئة في المئة
وموضوع احتكار البذور ليس تفصيلاً في بلد صغير ونامٍ مثل لبنان، لطالما كان قطاعه الزراعي مهملاً رسمياً، رغم أن أكثر من نصف اللبنانيين تقريباً يعملون ويعيشون بشكل جزئي من الزراعة. وقد حصلت تطورات كثيرة في السنوات الأخيرة، جعلت كثيرين يلجأون إلى مراكز بيع البذور أو الشتول للحصول على البذار، بعدما نجح سماسرة الشركات من تجار ومهندسين في إقناع هؤلاء باستخدام البذور المعدّلة المحميّة من بعض الآفات بذريعة أن إنتاجها أفضل. وهذا ما يفسر ارتفاع أسعار هذه البذور بشكل جنوني هذا العام والإمعان في استغلال المزارعين. وهو ما يشكل عائقاً مهماً أمام التوسع في الزراعة العضوية كمساعد للخروج من الأزمة الحالية. هكذا، فقدت الزراعة العضوية إحدى أهم مميزاتها، أي عنصر الاستدامة، إذ لم يعد بإمكان المزارعين، ولا سيما الجدد منهم، أن يزرعوا إلا إذا استعانوا بالشركات وبإنتاجها من البذور والشتول والمبيعات والأسمدة… والأدوات الزراعية المختلفة.
«الركن الثاني» للزراعة العضوية يتمثل بعدم استخدام المبيدات الكيميائية، التي زاد سعرها بشكل خيالي أيضاً. وقد كانت الزراعة، بكل أشكالها، ضحيّة هذا الاستخدام، وضحيّة استغلال الشركات والتجار للمزارعين، واحتكارها دور «الإرشاد» في غياب الدولة وأجهزتها، وضحيّة تهريب الأدوية والتلاعب بنوعيتها والعشوائية في استخدامها… ما أوقع المزارعين، ولا سيما الصغار منهم، في فوضى كبيرة انعكست في تلوّث التربة والغذاء (بوجود متبقّيات سامّة في الإنتاج) وهدر المال… فضلاً عن الآثار السلبية على التنوع البيولوجي. إذ إن هذه المبيدات تقتل الآفات الضارة، وتلك المفيدة أيضاً، وتتسبب باختلالات خطيرة لا تُعوّض في النظم الإيكولوجية.
أضف إلى ذلك كله أن الزراعة العضوية تعني إنتاجاً أقل من ناحية الكمية وغير مرغوب من ناحية الشكل، وهذا ما يشكل عائقاً لا يمكن تجاوزه إلا بثقافة غير تجارية، وفي ظروف اقتصادية مستقرة غير متوفرة حالياً.
في الخلاصة، يعدّ الإنتاج العضوي نظام إنتاج زراعي مستداماً من الناحية البيئية، وهو أحد التوجّهات العالمية الحديثة ومن أكثر القطاعات الزراعية نمواً في العالم. وبسبب زيادة الطلب العالمي على المنتجات العضوية، وحاجة لبنان الى التصدير وإلى العملات الصعبة، يمكن أن يشكل التصدير من هذا النوع التنافسي من المزروعات قيمة مضافة وباباً مهماً في هذه الظروف الصعبة إذا عرفنا كيفية تنظيمه.
نقاط الضعف والقوة
هناك كثير من نقاط القوة والضعف في قطاع الزراعة العضوية. بحسب آخر إحصاء في وزارة الزراعة، في لبنان حوالى 170 مشغلاً عضوياً يعملون في هذا القطاع منذ سنوات، مع شركات محلية لمنح شهادات الزراعة العضوية، كانت دائماً تحتاج الى مراجعة وتنظيم. كما تتوفر خبرات فنية لبنانية في قطاع الزراعة العضوية لا بأس بها، مع وجود مواصفات قياسية لبنانية معتمدة للإنتاج العضوي. كما يسمح تنوع الطبيعة اللبنانية بإنتاج عضوي لمروحة واسعة من المنتجات الزراعية، بالإضافة الى تربة خصبة ومنتجة في ظل المحافظة على زراعة تقليدية غير ملوثة. كذلك تتوفر نقاط وأسواق عرض وبيع المنتجات العضوية (بدأت أخيراً تفقد صدقيتها وحضورها)، وأُدخل موضوع الزراعة العضوية في المنهج الدراسي لمعظم كليات الزراعة في لبنان. أما أبرز نقاط الضعف، فتكمن في صغر القطاع الزراعي عموماً، وغياب قانون وطني للزراعة العضوية، وصغر الحيازات الزراعية، وارتفاع كلفة النقل بسبب تمركز الأسواق في العاصمة، ونقص في المدخلات الزراعية المناسبة للزراعة العضوية، وإذا توفرت فغالباً ما تكون مرتفعة الثمن نظراً إلى قلة إنتاجية هذه الزراعة وارتفاع أسعار المنتجات العضوية. إضافة الى غياب البحث العلمي والإرشاد الزراعي المناسبين لهذا القطاع وقلّة الثقة بصدقية المنتجات العضوية وقلّة وعي المستهلك اللبناني لأهمية هذه الزراعة وفوائدها على البيئة والإنسان.
تعليقات: