البالات لم تعد حكراً على الفقير.. الحرب والدولار والتدهور المستمر

مواطنة في إحدى بالات السرايا العتيقة (تصوير مارك فياض).
مواطنة في إحدى بالات السرايا العتيقة (تصوير مارك فياض).


في سوق للملابس المستعملة في #طرابلس، يردّد مُكبّر الصّوت من أحد المحالّ عبارة "أوكازيون... القطعة بخمسة عشر ألف ليرة"، فتدخل سيّداتٌ للبحث عن ثياب بهذا السّعر المغري الّذي كان يعدّ مرتفعاً قبل أزمة الدولار.

كانت هذه الأسواق المعروفة بـ"ال#بالة" في ما مضى تشكّل مقصداً لطبقة الفقراء وشريحة من الطبقة المتوسطة في طرابلس وجوارها في زغرتا والكورة، وأضحت اليوم مجالاً اجتماعيّاً، يعكس تدهور قدرة المواطنين الشرائيّة، وخياراً يتمدّد باتّجاه مستهلكين آخرين، ما كانت "البالة" من خيارتهم سابقاً، بل دفعهم إليها صراع الدولار المستمرّ بين المورّدين من أوروبا وتجّار البيع بالمفرّق.

يكشف صاحب هذا المحل لنا سرّ أسعاره المنخفضة: "اضطررت لابتزاز تاجر الجملة الذي يبيعني الملابس الأوروبية بالدولار. لم أفِ الأسبوع الماضي بثمن البالة التي اشتريتها، قائلاً له إنّ المبيعات منعدمة، وعليك أن تراعيني بثمن الدولار، فرضخ".

في الدّاخل، تحمل نهى وديمة مقرّرات جامعيّة بيد، وتتفحّصان القمصان الصّيفيّة باليد الأخرى. لاحظت الصبيّتان "ارتفاعاً كبيراً في أسعار البالة، لكن البضائع هنا تبقى ذات جودة أفضل، لأنّها أوروبية".

ندمت الزبونتان في السابق لأنّهما اشترتا الثياب الجديدة المصنوعة محليّاً؛ واليوم صارتا تقصدان البالة لأنّ النوعيّة أفضل وتكلفتها أقلّ.

في بالة محاذية، تنادي الجدّة زهرة حفيدتها لتختار سراويل داخلية، الواحد منها بخمسة آلاف ليرة.

تقول الجدّة: "ملابس كلّ عائلتنا من البالة، ولا تزال أسعارها مقبولة برغم الارتفاع، وما اختلف هو أنّنا بتنا نشتري الملابس الداخليّة المستعملة، وما كان ذلك ليخطر ببالنا من قبلُ، لكن الغلاء أجبرنا".

العمّ سعدي في محلّ مجاور استغنى منذ شهرين عن استيراد بالة "الكريم"، ذات النوعيّة الجيّدة وشبه جديدة، لأنّ "ثمنها لم يعد ضمن ميزانية الزبائن المعتادين". وهو يختصر مفارقات الأسعار بالمثل الآتي: "كان البنطلون الولّادي يباع في البالة بـعشرة آلاف ليرة، فقفز ثمنه إلى أربعين ألفاً. لكنّ سعره يبقى أقلّ بكثير من بنطلون جديد بـ150 ألف ليرة".

ويُشير إلى سكربينة "شانيل" أصليّة، تتدلّى من سقف المحلّ، يبيعها بـ75 ألف ليرة، فيما هي مسعّرة "أونلاين" بـ400 أورو.

يقصد سوق البالات الطرابلسي اليوم زبونات من المدينة، وآخرون من الأقضية المجاورة في بشري وزغرتا والكورة والبترون، بل يأتي البعض من بيروت، كالسيّاح الأجانب الّذين يُمتعهم اقتناء الحاجيات بسعر رخيص، في الوقت الذي يقومون بسياحة المأكولات في الأسواق القديمة.

هذه البالة، التي تقع في "#السرايا العتيقة"، لطالما صنّفها أبناء طرابلس ببالة "الذوات"، التي تضمّ مستويات اجتماعية أعلى من البالة التي تقع على نهر أبو علي المسقوف، وفي الأسواق المحيطة به، حيث الأسعار أرخص بسبب تدنّي النوعية.

اليوم، أصبحت بالات السرايا العتيقة سوقاً للفقير "ولأبناء الطبقة المعدمة التي نلاحظ فقرهم الشديد من هندامهم. وهناك الفقراء منخفضو الدخل، والعاملات الأجنبيات، ومتوسطو الحال. كلّهم زادت مشاويرهم إلى البالات، مثلهم مثل الأغنياء نسبيّاً، الذين يحرصون على التوفير في أسعار "الماركات" المشتراة من البالة، إلا أنّ هناك طبقة من الميسورين جدّاً، وهم قلّة في طرابلس، لا تقصد البالات"، يُشير خالد العمر، أحد باعة الثياب المستعملة منذ 30 عاماً.

ولم تشهد مصلحته طوال تلك العقود تعثراً كالذي يعيشه حالياً. يحاول البائع التحايل على الأزمة من خلال "التضحية بالأرباح. فالسيولة لم يعد لها قيمة. أن نبيع بـ500 ألف ليرة منذ سنتين كان يعود بأرباح أفضل من البيع بمليوني ليرة حالياً".

في هذا السياق، يأسف العميد المتقاعد عبد القادر الخولي، الخبير بتاريخ طرابلس القديمة، "لتحوّل هذه المنطقة الجميلة إلى بالات، منذ العام 1975 الذي يؤرّخ لاندلاع الحرب الأهليّة".

ويشرح: "كانت هذه المنطقة غير مفتوحة للسيارات، وبدل البالات كان هناك بيوت مأهولة، ولم يكن من مجال بين البيوت سوى لمرور عربات الخيل، التي وسّع لها الرئيس الراحل عبد الحميد كرامي طريقاً في الخمسينيّات من القرن الماضي. ويُمكن ملاحظة أنّ بناء البالات حجريّ من الداخل، وقد بُدّلت أبواب البيوت الخشبيّة بأبواب حديديّة للبالات وبعض محالّ الأحذية والسمانة".

وإذ تُجسّد هذه البالات تدهور القدرة الاستهلاكيّة للمواطن اللبناني عموماً، والطرابلسيّ خصوصاً، بخلاف البحبوحة خلال العقود الثلاثة المنصرمة، فإنّها انعكاس لتدهور وظيفة هذه الأسواق، وما يليها من دور طرابلس في أذهان اللبنانيين والسياح. كثر منهم يقصدونها لأجل البالة، وعبثاً تحاول طرابلس أن تخلع عنها لقب "أم الفقير".

(تصوير مارك فياض)
(تصوير مارك فياض)


(تصوير مارك فياض)
(تصوير مارك فياض)


(تصوير مارك فياض)
(تصوير مارك فياض)


تعليقات: