لا يأخذ المحتفون بالاعتبار صوت النخب وصوت البسطاء.. ومركز لبنان وأطرافه (علي علوش)
ينطوي الجزم بنتائج الانتخابات النيابية المقبلة، استناداً الى نتائج نقابة المهندسين في بيروت اليوم، على تسرّع، لا يأخذ في الحسبان طبيعة المعركة الانتخابية ولا اتجاهات القوى الناخبة الشعبية التي تقترع في الانتخابات النيابية.
وتحقيق قوى ١٧ تشرين المتمثلة بـ"النقابة تنتفض" فوزاً في المرحلة الأولى من انتخابات نقابة المهندسين في بيروت، يمثل انتصاراً مدوياً للقوى المدنية وتحالفاتها في وجه تحالفات قوى السلطة وأحزابها التقليدية. يؤشر هذا الفوز، بمضمونه، الى ان الاتحاد من شأنه أن يقود الى التغيير، وهو ما تحقق بالفعل عندما وجدت الارادة.
لكن إسقاط الفوز على نتيجة الانتخابات النيابية المقبلة، والجزم به كحقيقة واقعة لا لُبس فيها، يبدو أنها نشوة انتصار يتم التعبير عنها في مواقع التواصل، بما يتخطى كونه حقيقة يجب التعامل معها على أنها تحققت بالفعل. ويشبه الى حد بعيد الاحتفال بفوز المرشحين غير الحزبيين في نقابة المحامين بعد انتفاضة 17 تشرين، والذي أثبت أنه انتصار مرحلي، وخطوة على درب الألف ميل.
فالنقابات، سواء المهندسين أو المحامين أو الاطباء وغيرهم من المهن الحرة، عادة ما تضم النخب الاجتماعية، تلك العازمة على التغيير والتي تتطلع الى نافذة تنقذها من الستاتيكو القائم على حكم ساسة وتجار وورثة عائلات سياسية وتحالفات اقليمية وتوازنات طائفية... تدرك تلك النخب أن لا سبيل الا بالتغيير الديموقراطي، وتزايدت مساحة الوعي في صفوف المنتسبين الى تلك النقابات بعد 17 تشرين، بعدما فَقَدَ اللبنانيون الامل بتغيير مرتقب، وبإصلاح وحوكمة.
والاهم من ذلك، أن تلك النخب، التي تشكل عماد الطبقة الوسطى في المجتمع اللبناني، مُنيت بأكبر خسارة في تاريخها، بعدما صادرت المصارف والسلطة أموالها، وتدهور الوضع الاقتصادي بما أفقد هؤلاء أي فرصة للتطور وللعيش بظروف عادية كانت توفرها الظروف السابقة، أو توفرها الآن دول فتحت ابواب هجرة النخب اليها. وطالما أن أي تسوية للأزمة لا يمكن أن تعوّض خسائر هذه النخب، فإنها وجدت نفسها أمام خياري الهجرة أو الثورة.
هاجر المئات منذ 17 تشرين، وثار الآخرون بالآليات الديموقراطية. هذا الاتجاه المتوقع، قاد الى النتيجة التي تحققت في انتخابات نقابة المهندسين اليوم، وقبلها في انتخابات نقابة المحامين، وستتكرر في نقابات أخرى تضم أكثرية من المكتفين مادياً، كون الاكتفاء يحفّز على التمرد، خلافاً للبسطاء، ابناء الطبقات الفقيرة الذين عملت السلطة على رشوتهم منذ ثلاثين عاماً، سواء عبر التوظيفات العشوائية والاستنسابية، أو المساعدة الغذائية وتسهيل الوصول الى الحق في الادارة الرسمية، أو عبر ايجاد حيثية اجتماعية توفرها الاحزاب في القرى والبلدات لمناصريها، ويُضاف اليها دور الاحزاب كمشكى الضيم على تعسّف الدولة، فتتدخل خدماتياً لدى ضابط أو قاضي او موظف أو مستشفى او بلدية...
وهؤلاء البسطاء، هم القوة الناخبة في الانتخابات النيابية. هم الاكثرية الصامتة، أو الخائفة، أو المتأملة بدور انقاذي للأحزاب التقليدية، أو القوة المرتشية، تحت ضغط الحاجة المادية. وتفرض الواقعية السياسية الأخذ بعين الاعتبار أن الانتخابات النيابية في لبنان، والبلدية والاختيارية استطراداً، نادراً ما تُخاض بالشعارات. تحكم نتائجها "شاحنة الاسفلت أو ما يعادلها" من خدمات وتوظيفات ومساعدات صحية وغذائية، وتتقن الاحزاب ممارسة هذا الدور، لفهمها واقعاً طبيعة تلك المعادلة.
ثم ان الانتخابات النيابية، تستند الى الديموقراطية العددية. فما يصل الجمهور من وسائل الاعلام، هو صوت النخب في المركز، لكن ما يتردد صداه في الأطراف، سواء لجهة مناصرة الاحزاب وخياراتها، أو القبول بدورها الإغاثي في الأزمة، أو لا تزال تقترع بالمنطق العشائري والقبلي، عبر المفاتيح الانتخابية، يعبّر عن الاكثرية الصامتة التي تذهب الى الانتخابات بورقة واحدة، وتمارس حقّها الديموقراطي بتصوّر مسبق عن الانقاذ. وما ينطبق على المركز، لا ينطبق على الاطراف، باعتراف الدول الصديقة الداعية للتغيير، وهو بحث آخر.
لذلك، يبدو الاحتفاء المبكر بتغيير كبير في موازين القوى في الانتخابات النيابية، هو تسرّع ورومانسية زائدة، لكن الفوز بلا شك، يمثل انتصاراً على مستوى النخب بعدما كانت الاحزاب التقليدية تتنافس وتتصارع من غير اعتراف بقوى مستقلة أخرى. طريق التغيير يبدأ بخطوة، وقد خطا المستقلون حتى الآن خطوتين سيتم البناء عليهما ومراكمة الانجازات حتى التوصل الى تغيير كبير في المستقبل.
تعليقات: