من منطقة النبعة (تصوير مارك فياض)
لبنان ليس بخير؛ شعبه يئنّ ولا يدري إلى أين هو ذاهب في هذا النفق المظلم الذي يشتدّ اسوداداً يوماً بعد يوم. حال الناس تصعب أكثر فأكثر، ولا سبيل لإيصال أوجاعهم وإن أوصلوها وصرخوا، فلا حياة لمَن تنادي. مع ملامسة سعر الدولار 18000 ليرة في سعر صرف قياسي منذ بداية الأزمة الاقتصادية، ورزح البلاد في أزمات متعدّدة تتكلّلها الأزمة السياسية العميقة، جال موقع "النهار" في إحدى المناطق الشعبية الفقيرة في بيروت، لنقل عينة بسيطة عن بعض من وجع الناس، في شهادات حية عن أوضاعهم مع اشتداد الأزمة المعيشية.
لدى وصولنا إلى منطقة #النبعة في برج حمود، دخلنا دكاناً صغيراً تجلس فيه امرأة كئيبة. رفوف المحل غير ممتلئة بالبضاعة، "نحن تعبنا، ولم أعد أستطيع شراء البضاعة للمحل، وكنت لتوّي أتحدّث مع والدتي وأقول لها إنّني لم أعد قادرة على تسديد إيجار المنزل "، بهذه العبارات تعبّر دنيا عن وجعها. هي أرملة رقيب أول في الجيش، وتتقاضى راتبه 800 ألف ليرة "أدفع منه إيجار المنزل 525 ألف ليرة، والباقي منه، آكل وأشرب منه مع أولادي".
أولادها طلاب جامعات، ولا يجدون عملاً ليساندوها. إيجار محلّها هو 300 ألف ليرة، و"أحياناً اضطرّ لأن أستدين من والدتي وأختي لكي أسدّده، ويريد صاحب المحل أن يزيد الإيجار الآن"، تروي دنيا. وبسبب الارتفاع الهائل لسعر صرف الدولار، ما كانت تشتريه بـ 300 ألف ليرة لتعبئة المحل، لم يعد يكفي لتعبئة ربعه، والدكان لم يعد ينفع ولا يدرّ عليها بالربح، "كنّا نطلّع الـ 100 ألف ليرة، هلق الجارور ما بسكّر 30 ألف ليرة بالنهار، كيف لي أن أعيش وعائلتي؟"، تشتكي السيدة.
وفي سؤالنا عن إمكان تأمين قوتها وقوت أولادها، أجابت دنيا بغصة "الله بيعرف، من دون ما نحكي، فالمحل لم يعد ينتج علي، خصوصاً بعد أن فتحت دكاكين عدة من حولي، والآن أصفّي بضاعتي، وما أبيعه آكل بثمنه".
كهرباء الدولة، وإن أتت، تأتي لنصف ساعة فقط لديها، وصاحب المولِّد يدرك حالها، لذا، قلّما يطلب منها بدل الاشتراك، لكنّه الآن طالب بزودة، فالأوضاع صعبة على الجميع. ودنيا هي مريضة قلب وربو وسكري وضغط، "لكنّني غير قادرة على شراء أدويتي، وبت لا أتناولها".
بالانتقال في أزقة النبعة، يستوقفنا مشهد الناس الجالسين، كلّ أمام منزله، فالمنازل هناك أرضية تحاذي الرصيف، "لا كهرباء في المنطقة ونختنق من الحر داخل منازلنا، تقول إحدى السيدات".
يتبادر إلى أذهان الجيران والسكان هناك للوهلة الأولى، أنّنا نجول لتوزيع المساعدات عليهم، ويسألوننا:"عمبتوزّعو مساعدات؟"، كمَن ينتظر فرجاً يأتيه. لدى رؤيتنا، هرعت سيدة مسنّة ترتدي ثياباً بالية باتجاهنا وبدأت تنادي "لدينا أطفال وطفلة بعمر السنة وما في حليب، ولا حفاضات، أكل ما عنّا، معاش ما عنّا، ثيابنا ممزّقة ولا قدرة لنا على شراء الثياب".
وعندما تحدّثنا معها، تبيّن أنّها تعيش وابنتها وأولاد ابنتها الأربعة. أصيبت ابنتها من جراء الانفجار وتوقّفت عن العمل مذذاك الحين، وهي كانت المعيلة الوحيدة لوالدتها وأولادها. تعيش هذه العائلة على المساعدات والإعاشات، فـ "اللبناني يعيش بالذل"، تقول الابنة. وتضيف "نحن غير قادرين على شراء الطعام، والدولار أصبح بـ 18000 ألف ليرة والأسعار خيالية، ونعيش بالدين حالياً، حالنا كحال الناس جميعاً".
ويعقب جارها الذي يهزّ طفلاً رضيعاً، "هذا الطفل هو ابن أخي وأنا أعمل في شركة أدوية، ولولا ذلك، لما استطاع أخي أن يؤمّن الحليب لابنه".
في الشارع المحاذي، رجل يقف أمام ميني ماركت، وثيابه تمتلئ بالبقع السوداء، وتظهر عليه علامات اليأس. يعمل آفو حداداً "عالتلفون"، إذ كان يمتلك محلاً، لكن بسبب عدم تمكّنه من تسديد الإيجار لمدة 5 أشهر على التوالي، اضطرّ إلى تركه ولا زال حتى الآن يقسّط المتوجِّب عليه لصاحب المحل.
"أعمل يوم إيه عشرة لأ"، يقول آفو، فالأزمة الاقتصادية وانتشار كورونا، كانا السبب في تراجع عمله بشكل كبير وإقفال محلّه. هو أب لفتاة وفتى، وتأمين معيشتهم ومعيشة زوجته بات يثقل كاهله، إذ لا يمكنه تسديد جميع النفقات المطلوبة، لذا يساعده أحياناً إخوته أو بعض الأشخاص الآخرين.
ويروي آفو التالي:"ذهبت اليوم لشراء الحديد، لكنّني عدت كما ذهبت ولم أشترِ شيئاً بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار فوق الـ 17000 ألف ليرة، وتواصلت مع زبوني لأخبره أنّني لن أكون قادراً على تلبيته". ويعبّر عن اختناقه من أوضاعه بعبارة "موت بطيء"، ويضيف:"بتنا نرضى بالقليل لكنّنا لا نجده، وبحال أمّنت 100 ألف ليرة لأتمكّن من أن آكل أنا وعائلتي أحمد ربي، لكن أحياناً لا أستطيع تأمين هذا المبلغ، وبيتي ملك لي لكن الحجر لا يؤكل".
زوجته لا تعمل، ولا تجد عملاً. ومدرسة أولاده لم تتقاضَ القسط هذا العام لأنّ التعليم كان أونلاين، "لكنّني مجبور أن أؤمّن التلفون والإنترنت لهم للتعليم".
وكي لا يدفع آفو بدل اشتراك المولِّد لعدم توافر المال، "أبقى ناطوراً على المولدات وأسهر حتى الصبح، وعندما تأتي كهرباء الدولة أعود إلى منزلي".
وخلال إنهائنا حديثنا معه، قال: "فتحتولي جروحي".
(الصور لـ مارك فياض)
تعليقات: