محمد العمر ابن الأحياء الشعبية في منطقة باب الرمل (المدن)
تتسع رقعة الاحتقان الشعبي في طرابلس، ويبدو أن حصيلتها تتجلى بتصادم المواطنين مع بعضهم بعضًا من جهة، واعتقال الناشطين الفعليين كما حصل مع محمد العمر من جهة أخرى.
قطاع الطرق
فبعد أحداث العنف والتوتر التي عاشتها عاصمة الشمال عشية السبت–الأحد، بدأت أسبوعها الجديد على وقع قطع الطرقات الداخلية، وفي قلب الأسواق، من قبل عشرات الشبان فقط، الذين يعترضون طريق المواطنين بالقوة، وغالبًا بين حيّ وآخر، ما يؤدي إلى تلاسن يتطور إمّا إلى تصادم بين العابرين وقاطعي الطريق، وإما إلى رضوخ المواطنين لشروطهم بتغيير وجهتهم أو العودة إلى منازلهم.
صباحًا، ولدى العبور عند كورنيش الميناء، صادفنا ثلاثة شبان فقط، أكبرهم يبلغ 18 عامًا، أضرموا الإطارات المشتعلة، بحضور ثلاث ملالات للجيش اللبناني. ولدى مرور أحد المواطنين بسيارته، وهو من عمال مرفأ طرابلس، رفض الامتناع عن المرور، فترجل من سيارته وبدأ يصرخ: "ألا يكفينا ذل محطات الوقود التي نتأخر بسببها عن عملنا؟"، ورغم غضبه، رفض الشبان السماح له بالعبور، حتى بعد أن أبرز بطاقته لهم، فاضطر إلى العودة عكس السير على أوتستراد الكورنيش، مع عشرات السيارات التي كانت عرضة للحوادث.
هذا المشهد، هو عينة عن كيفية قطع الطرقات بطرابلس ومحيطها، التي يغيب عنها المشهد الفعلي للانتفاضة الشعبية، ليصبح الشارع أسير نفوذ ما يعرف بـ"الناشطين"، مثل ربيع الزين وخالد الديك ورفاقهما، الذين يفرضون على المدينة خريطة قطع الطرقات الداخلية، وأحيانًا ضمن الحي السكني الواحد، من دون رفع شعار واضح أو خطاب، بل يستغلون، وفق شهادة كثيرين، عشرات الشباب المهمشين والموجوعين والمحرومين، تنفيذًا لأجندات ما زالت مبهمة تحت غطاء الثورة الشعبية.
مقابل ذلك، يتجلى تناقض الأداء الأمني باستهداف ناشطين فعليين دون سواهم، وهو ما حصل إثر اعتقال الناشط المدني محمد العمر، المعروف بحيويته وتمايز خطابه، مع ستة آخرين.
فلما اعتقلته مخابرات الجيش؟
يوم السبت 26 حزيران، وخلال اعتداء بعض الشبان على محل "أبو صبحي" عند طريق الميناء، كان محمد يقف على الرصيف المقابل، ويصوّر بهاتفه ما يجري، فرصد تنكيل أحد العسكريين ببعض الشبان، وعلّق منددًا بالمشهد، واستمر بتصوير الممارسات العنيفة، فجرى الاعتداء عليه لاحقًا، ومن ثم اعتقاله، وهو موجود لدى مخابرات الجيش بالقبة.
محمد وهو بالعشرينات من عمره، سبق أن انتشر له فيديو شهير خلال أحداث طرابلس، التي انتهت بإحراق البلدية في نهاية كانون الثاني 2021، وتوجه فيه باسم أهل المدينة لكل من يسأل عمّا يحصل فيها، بعد أن "كثرت تخريبات الاندساس والمؤامرات التي تتقنها قنوات السلطة في السياسة والأمن والإعلام"، ومما قاله أيضًا أن "هذا شعب جاع 30 سنة حرمان من الإنماء.." (راجع "المدن").
والمعروف عن محمد، وهو ابن الأحياء الشعبية في منطقة باب الرمل، لم يحالفه الحظ في إكمال دراسته، لكنه واظب على تطوير مهارته، فنشط على نطاق واسع في طرابلس. وكان يحرص على المشاركة في مختلف الندوات السياسية التي سبق أن عقدت على هامش ساحة النور خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ويطرح مواقفه وأسئلته بجرأة غير معهودة عند أقرانه، كما لعب دور "الدليل السياحي" لكل مجموعة تطلب منه التجول في طرابلس، لتقديمها بصورة مختلفة وغير نمطية.
وخلال شهر رمضان، وسع نشاطه مع الأطفال في الأحياء الشعبية. إذ كان يأخذهم ويجول معهم للمشاركة في توزيع المساعدات على المحتاجين. كما كان يلعب معهم ويسعى لدخولهم إلى ملاعب الفوتبول مجانًا، تنفيذًا لرغبتهم التي يعجزون عن تحقيقها بمفردهم.
ولم يعرف بعد مصير توقيف محمد الذي يسعى بعض المحامين للدفاع عنه، بعد الوقفة التضامنية معه أمام مبنى مخابرات الجيش بالقبة. وهم يعملون على إطلاق سراحه هو والستة الآخرين. وفي حديث لـ"المدن"، يشير الناشط السياسي بحركة مواطنون ومواطنات في دولة، عبيدة تكريتي -وهو واحد من أبرز المنظمين لحلقات الحوار السياسي بطرابلس- أن ما يميّز العمر كانت جرأته بالقول "أننا (أي الشباب) البديل الفعلي عن السلطة"، وهي جرأة في بلد يكثير فيه الناشطون ويغيب عنه الخطاب السياسي العميق، وفق تكريتي.
"فوضى" طرابلس
ومقابل الريبة من خلفيات اعتقال العمر، يعتبر تكريتي أن مشهد الفوضى والعبثية المفروضة على طرابلس بالشارع، تبدو انعكاسًا لتخبط النظام، وتخبطها بالقبضة الأمنية. ورغم أن الشبان الصغار مدفوعين للتصادم مع الناس، يصفهم تكريتي بـ"المساكين"، وأن عجز السلطة بلغ درجة دفع المواطنين للتصادم ضد بعضهم البعض.
ويرى تكريتي أن سبب انكفاء الناس عن الشارع، في ظل استفحال الأزمة إلى مستويات خطيرة تهدد الأمن الغذائي والصحي والاستقرار الأمني، فهو نتيجة طبيعية لحال الإحباط السائدة، ولأن المواطنين لا يريدون تكرار مشاهد ما بعد 17 تشرين من دون انتاج رؤى وبدائل.
وفي طرابلس، "لم تتشكل قوى تغييرية فعلية رغم حاجة المدينة لها، ولا يوجد من يتحدث مع الناس بالمباشر"، ويعتبر أن سوء الوضع بالمدينة سببه عدم رفع الوعي السياسي، وقد تجلّى بفارق نتائج الانتخابات بين نقابتي طرابلس التي فازت بها السلطة، وبيروت التي فازت بها الانتفاضة.
وقال: "الشارع ليس الساحة الوحيدة لمجابهة السلطة بقطع الطرقات، في أماكن غير مؤثرة إلا على المواطنين أنفسهم، بل إن الانتفاضة تتطلب خوض صراع سياسي فعلي مع الطبقة الحاكمة والعاجزة".
في هذا الوقت، يستمر قطع الطرقات بطرابلس، من قبل شبان المجموعات نفسها، بانتظار ما ستؤول إليه الساعات المقبلة، مع ارتفاع حالة الاحتقان والقلق الشعبي من تداعيات رفع الدعم، وبعد إقدام بعض مولدات الكهرباء على إطفاء محركاتها بالكامل، بسبب نفاد مادة المازوت، كما أقفلت معظم محطات الوقود بالمدينة.
تعليقات: