إجراءات «المركزي» تسدّ جزءاً من «فجوة» حساباته، المُقدّرة بأكثر من 55 مليار دولار (هيثم الموسوي)
لن يخرج رياض سلامة من مكتبه قبل أن يُشعل النار في ما تبقّى من اقتصاد لبناني وقدرات معيشية للسكّان. يستمر في استغلال سلطاته الواسعة، مُستخدماً أموال المودعين لإطفاء خسائر مصرف لبنان والمصارف، مقابل الاقتطاع من قيمة الودائع. تأثير سياسته لن يقتصر على زبائن المصارف، بل يصيب بالدرجة الأولى كلّ السكان، لأنّ خطته التخلّص من الودائع وتحويلها إلى الليرة ستزيد الضغوط على العملة وترفع نسبة التضخم وتنسف ما تبقى من القدرات المعيشية
كلّ يوم إضافي يُمضيه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مركزه، يدفع ثمنه الناس من مالهم وقدراتهم المعيشية ومستقبلهم، ويعَطّل أي إمكانية لفرملة الانهيار وإيجاد حلّ. الحاكم - المُشتبه فيه دولياً ولبنانياً بجرائم اختلاس الأموال وتبييضها والإثراء غير المشروع - يخوض في السنتين المُتبقيتين من ولايته معركة تنظيف أخطائه في مصرف لبنان وتغطية المخالفات التي ارتكبها مع العدد الأكبر من المصارف، مُعتبراً أنّ استخدام كلّ الأسلحة مشروعٌ له... ومنها ما ناقشه في الأسابيع الماضية مع رئيس جمعية المصارف سليم صفير، ومسؤولين اقتصاديين وماليين، حول نيّته تحويل ثلث الودائع بالدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية، و«تحفيز» المودعين على سحب أموالهم وفق سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار، أو سعر آخر يبتدعه لهم. ويتحدّث الحاكم عن أمكان تحديد سعر جديد لـ«منصة المصارف» هو 6200 ليرة للدولار الواحد (بدل الـ3900)، وهو غير سعر «منصة صيرفة» المحدد بـ12 ألف ليرة للدولار الواحد. ولا بد من الإشارة إلى أن سلامة يسعى إلى «إقناع» وزارة المالية ومجلس النواب باعتماد رقم 3900 ليرة لكل دولار كسعر صرفٍ جديد يحلّ مكان الـ1507.5، ويُستخدم لوضع الميزانية العامة الجديدة.
المطروح ليس جزءاً من خطة متكاملة، أساسها إعادة هيكلة المصارف وإطلاق القطاع وِفق أُسس سليمة، بل استكمال سلامة لسياسة تدفيع كلّ المودعين - ولا سيّما أصحاب الحسابات الصغيرة والمتوسطة - ثمن محو جزء من الخسائر في ميزانيته وميزانية المصارف. التخلّص من الودائع بالعملة الأجنبية اعتراف غير مباشر من سلامة بأنّ «خبرية» الاقتصاد الحرّ وسهولة تبديل العملات داخل المصارف وتقديم فوائد وهمية بغير العملة الوطنية، سياسات خاطئة وقد قرّر اليوم نَسفُها بنفسه. ولكنّ الطريقة التي سيعتمدها تقود إلى خسارة المودعين قيمة ودائعهم، وانهيار إضافي في سعر الصرف، وزيادة معدّلات التضخم. مرّة جديدة، يُراد تقديم المجتمع اللبناني كـ«أضحية» على مذبح القطاع المالي.
تقول مصادر مصرفية إنّ سلامة «أجرى دراسة أظهرت أنّ حوالى ثلث الودائع في المصارف اللبنانية بالدولار هي عبارة عن أموال مُحوّلة من الليرة إلى الدولار داخل القطاع المصرفي. وبالتالي، هي، والفوائد عليها، ليست دولارات حقيقية». وقسم كبير من المبالغ «حُوّل إلى الدولار بعد تشرين الأول 2019»، ما يعتبره سلامة مُبرّراً له حتى «يستعيد» هذه الدولارات الوهمية. ينبغي التذكير هنا بأنّ المصارف هي التي فتحت المجال للمودعين بتحويل أموالهم إلى الدولار مقابل تجميد الوديعة لفترة زمنية مُعينة وتسجيل فائدة مُنخفضة عليها. وقامت بزيادة كتلة دولار «التقليد» عبر اختراع تسجيل كلّ وديعة بالدولار بأكثر من 3 مرات من قيمتها. حصل ذلك بمعرفة من مصرف لبنان، وبإدراكه لزيادة الدولرة في القطاع المصرفي، من دون أن يتدخّل هو أو لجنة الرقابة على المصارف لردعها، بل تآمرا لمساعدتها. صمت مصرف لبنان كان مُباركة لنهب المودعين، وما تخطيطه اليوم لتحويل الودائع من الدولار إلى الليرة إلّا نهباً جديداً لهؤلاء، ارتداداته ستُصيب كلّ السكّان.
سلامة يتحدّث عن إمكان رفع سعر «دولار المنصّة» من 3900 ليرة إلى 6200 ليرة
طرد أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة من القطاع المصرفي له هدفان: إنقاذ المصارف من الإفلاس ورساميل أصحابها، لأنّ الحلّ الآخر يقتضي أن يدفع المُساهمون الثمن عبر الضخّ من أرباحهم، الأمر الذي يرفضونه. أما الهدف الثاني، فهو سدّ جزء من الفجوة في حسابات مصرف لبنان والإيحاء بأنّه لا خسائر في ميزانيته. يقول الأمين العام لـ«مواطنون ومواطنات في دولة»، شربل نحاس إنّ إجراءات مصرف لبنان منذ سنة ونصف سنة تصبّ في خانة «إرغام المودعين على تحويل دولاراتهم إلى الليرة». يشرح العملية ببساطة: «في العادة، ولتحويل وديعة دولار إلى الليرة، يأتي مصرف تجاري بالدولارات من حساباته في الخارج ويُبادلها بالليرة مع مصرف لبنان. لم تعد المصارف تملك دولارات في حساباتها لدى المصارف المراسلة خارج لبنان، بعد أن وظّفت أغلبية الودائع في مصرف لبنان. لذلك حالياً، حين تُريد تحويل وديعة من الدولار إلى الليرة، سيقتطع مصرف لبنان المبلغ من حساب المطلوبات عليه للمصارف، أي يُخفّف من خسائره بالدولار». ما يقوم به مصرف لبنان يُساعده لسدّ العجز في فجوته، المُقدّرة بأكثر من 55 مليار دولار، «من خلال تحميلها للمودعين. والمصارف أيضاً تمحو الخسائر المتراكمة في دكاكينها على حساب المودعين. هذه السياسة لم تتوقّف منذ اليوم الأول للانهيار، ولذلك يوجد أسعار صرف مختلفة. الجميع خسر مقابل شطب خسائر البنك المركزي والمصارف».
في نهاية سنة 2019، عُقد اجتماع في قصر بعبدا مع رياض سلامة طُرح فيه تحويل ما بين الـ10% والـ20% من ودائع الأفراد التي تفوق الـ100 ألف دولار إلى الليرة اللبنانية، تُودع في حساب لدى مصرف لبنان لمدّة خمس سنوات تُعاد بعدها إلى أصحابها، وتُخصّص لإعطاء قروض إنتاجية تُعيد تحريك الاقتصاد. كانت الفكرة جزءاً من خطة إصلاحية لإعادة هيكلة القطاع المالي، وتستهدف أولاً وقف الاستنزاف في حسابات «المركزي» بالعملات الأجنبية، لا بل زيادتها. يومها عارض سلامة الاقتراح، ليبدأ بعدها بتطبيقه تعسفياً عبر اختراع أسعار صرف وإصدار تعاميم تزيد الكلفة من دون أن تحلّ المشكلة، لأنّه يُصرّ على عدم إجراء هيكلة شاملة للقطاع المصرفي. يتناسى سلامة وجود «معضلة حقيقية، وهي أنّ أكثرية حسابات العملات الأجنبية لدى المصارف هي بالدولار اللبناني. لا يُمكن التفكير في تحويل حسابات إلى الليرة أو غيره، قبل الموازنة بين الدولار الحقيقي والدولار الوهمي»، يقول أحد الخبراء الاقتصاديين. ولتصحيح السعر «لا مفرّ من إجراء قصّ شعر على الودائع الكبيرة أو استعادة فوائد غير مُستحقة، وإيجاد معادلة لتحديد سعر الدولار الوهمي، من ضمن تسوية شاملة».
التسوية الشاملة تعني خطّة مالية وإعادة هيكلة المصارف، لتحديد أيّ منها يجب تصفيته نهائياً، وأيّ تستملكه الدولة عبر مصرف لبنان، ومن وضعه يسمح له بالعمل بعد تنفيذ إجراءات لها علاقة بالرسملة. أما إصرار رياض سلامة على إنقاذ كلّ المصارف، فيعني أنّ كلّ المودعين في كلّ المصارف سيدفعون ثمن إفلاس أي مصرف، لأنّ هذه السياسة تُطيل أمد الأزمة وتزيد من الكلفة التي سيتكبدها المجتمع والاقتصاد.
تعليقات: