رئيس بلدية الزرازير الرائد المتقاعد طعان حبشي
لا يتخيّلنَّ أحد ٌ، كم ْهي عديدة البراقع والأقنعة والأغطيّة، المموّهة والخداعّة، اللمّاعة والبرّاقة ، وكم ْهي منتشرة وشائعة في مجتمعنا ، والتي لو قُدِّر لها ، أن تُفرجَ عن مكامن السُتر التي تسترها ، لساد العجب ، ولأندهشت الوجوه ، ولتبلبلت الألسن ، ولإنقلبت المعايير والمقاييس والمفاهيم ، ولتبدّلت الوقائع ، ولإنعكست الصور في مشاهداتنا اليوميّة . فما كان يبدو لنا وللعيان أبيضا ً، لبانَ إسوداده ، وما عاهدناه زاهيا ً نضرا ً، لأظهر ضموره وشحوبه ، وما عرفناه أمينا ً وصادقا ً، لأنفضح بكذبه وريائه ، وما حسبناه كريما ً نبيلا ً ، لفاجأنا عند أول إمتحان ٍ له ، ببخله ووضاعته وإنحطاطه ، والذين كانوا في العلن يتفاخرون ويتكابرون ، لتكشّفوا في السر بأنهم على تفاجر ٍ وتحاقر ٍ وتصاغر وما كنّا قد عددْناهم من أصحاب المحاسن والمكرّمات والفضائل ، لوجدناهم من أهل المحقرات والدنايا والرزائل .
وإليكم هذه القصة المعبِّرة ، والتي لها دلالتها ، في سياق هذا المعنى :
باسكال وشنتال هما سيدتان ، أنيقتان جميلتان وراقيتان ، تنتميان الى الطبقة المُخمليّة ـ الأرستقراطيّة ، وقد أنعم الله عليهما بثروات ٍ لا تحرقها النيران ، قادرة على إطعام فقراء العالم لسنوات وسنوات . وهذه الثروات هبطّت في حضنيَّ هاتين السيدتين ، وتراكمت دون كد ٍ أو جهد ، كإرث ٍ من تعب ِ الجدود والأهل ، ومن ثمّ كنتيجة ٍ للزواج ” يلي متلنا تعا لعنّا ” و ” المال بيجر المال “. طوال فصل الصيف، كانت هاتان المرأتان ترتادان مُجمّعا ً فخما ً، يقع في ضواحي العاصمة ، حيث كانتا تمارسان مختلف أنواع الرياضة وخاصة السباحة ، والإستلقاء بعدها تحت أشعة الشمس الحارقة ، لتأخذنَّ اللون الأسمر ـ البرونزي ، الذي يزيد على جمال أجسادهنَّ ونعومة بشرتهنّ، السحر والرونق والفتنة . وكانت شانتال قد إشترت من فرنسا مايوها ً ، يُعدّ آخر صرعة وأحدث موضة لتلك الأيام ( إشانكّريه ) فور نزوله الى المتاجر الباريسيّة المعروفة ، وفي صبيحة أحد الأيام إرتد ّته وراحت تمشي متمخترة فيه ، متدللة متدلعّة ، ومتباهيّة بجسمها الرشيق وبقوامها الفارع ، ذهابا ً وإيابا ً أمام باسكال ، وهذه الأخيرة لم يرق لها الأمر ، فأضمّرت الشر في قلبها ، وبعد بضعة أيام ، وأثناء وجود الأثنتين على المسبح ، تفاجأت شانتال بخادمة باسكال السيريلنكيّة وهي تمرُّ بمواجهتها بتمهل ٍ وبطء ٍ ، وكأنها في عرض أزياء ، وهي تلبس ذات المايوه وبنفس اللون والموديل ، وذلك تنفيذا ً لما أمرتها به وعلمتّها إياه ربّة عملها . فثارت ثائرة شانتال وإستشاطت غيظا ً، وإنتفضّت كما لو أنّ أفعى لدغتها وتوجهت مباشرة نحو غريمتها ، وهي تصرخ بأعلى صوتها مطلقة ً الشتائم واللعنات والأوصاف العائبة بحقها وبحق ندَّتها في الأبتزال وخفّة العقل ، وما أن وصلت قربها حتى إنقضّت عليها وأمسكتها من شعرها ، وكذلك فعلت الآخرى ، وإستمر الأشتباك الأنثوي العنيف لفترة من الوقت، قبل أن يتمكّن روّاد المكان المندهشين والمصدومين، من تفريق السيدتين الراقيتين والفصل بينهما، ولم ينته العراك عند ذاك الحد، بل عاد وإحتدم مرّة ٍ أُخرى في المخفر، وهذه المرة بمناصرة ٍ ودعم ٍ من الزوجين الكريمين والأهل والأقارب ، أدامهم الله وأزاد في بلاهتهم وغبائهم وتفاهاتهم .
البطل في هذه الحادثة كانت قطعة قماش ٍصغيرة ، خِيطت لتغوي وتغري، فترمي حسداً وغيرة ً في الرؤوس الفارغة والعقول الضعيفة، ويا ما أكثر السخافات والمواقف المشابهة، التي تضرب بسهولة مثل تلك الرؤوس المماثلة ، المنغمسة حتى أُذنيّها في ترهات وأباطيل هذا العالم .
وهكذا فقد كشف لنا المايوه ، كَمْ من العهر كان مستورا ً ، وكَمْ من البطر كان مطمورا ً، وكَمْ من الروائح الكريهة ، التي نأنف من شمِّها ، وكنّا نخالها عطورا ً، وكَمْ من مظاهر الطيبة والأدب ، تبيّن بأنها كانت تحجب فسقا ً وفجورا ً، وكَمْ من القصور المزينة والمزخرفة من الخارج ، قد تضم ُّ في داخلها أناسا ً يدّعون الرقيّ والرفعة والمعرفة
إنما هم في الحقيقة بسطاء وسذ َّج ، مزيّفون ومتنكرون ، مخادعون وماكرون ، حاسدون وحاقدون ، ولا يترددون بدافع ٍ من جوهرهم العفن ، الى تحويل قصورهم الى أوكار ٍ لفعل السوء والشر ، ومراتع لإرتكاب القبح والمنكر والمعاصي .
تعليقات: