الجميع يعمل على قاعدة «احفظ بنزينك الأبيض ليومك الأسود» (مصطفى جمال الدين)
اً
أبرز خبر في الجنوب اليوم: "سينقطع البنزين بعد 7 أيام". وتنتقل الشائعات وتنتشر كالنار في الهشيم الذي بدأ ييبس، بعد ربيع لبنان المعتدل، والذي لم يعرفه من سنين بهذا الجمال والطقس الرائع، على عكس مآسي البلد المروعة.
أنغام الشائعات
ويرقص الجنوبيون على أنغام الشائعات. وتتحرك مسرعة سياراتهم نحو محطات الوقود. ثم تروح تبطئ سيرها فيما هي تصطف طوابير طويلة كمجرة أرضية معدنية، فتروح تسخن في لهيب بدايات تموز.
وسرعان ما تندلع الشجارات ملتهبة، لأن شخصاً ما مدعوماً أراد اختصار المجرة المعدنية وتخطي بعض سياراتها. وترتفع في الهواء سكاكين لامعة في نور الشمس، وتُشهر في الهواء إياه مسدسات، فتطلق في الهواء الساخن رصاصاتها.
وفجأة يهجم جمع من المنتظرين الغاضبين على صاحب محطة، ويضربونه. وهكذا أغلقت محطات كثيرة مداخلها بسواتر ترابية -ما ينذر بحرب مقبلة- بعدما عجزت الأشرطة الحمراء والصفراء وقوى الأمن عن فرض النظام أمام المحطات. وقد يتفاجأ الجنوبيون بصورتهم الجديدة عن أنفسهم وقوتهم. والصورة الجديدة هذه لم يعتادوها سابقاً.
شوارع كئيبة وشجارات
وشوارع الجنوب في عطلة نهاية الأسبوع تكاد تكون فارغة متثائبة. وهذا أيضاً مشهد لم يعتده الجنوبيون ولا ألفوه سابقاً في فصول الصيف وازدحام القرى بالمصطافين والمغتربين. وأمس الإثنين لم يتغير المشهد: تقتصر التنقلات على ما هو ضروري فقط: "كأنما قنبلة نووية ضربت المنطقة"، يقول بائع قهوة على مفترق طرق في قرية خربة سلم، ثم يضحك.
وفي قرية برج قلاويه يبدأ طابور سيارات بالتجمع أمام إحدى المحطات. نسأل أحدهم عن توفر البنزين، فيجيب" "أطلب دماً ولا تطلب بنزيناً". متى يصل الوقود؟ يجيب "بعد يومين، سأركن سيارتي هنا، كالآخرين". وتتكرر المشاهد والأجوبة في صريفا، دردغيا، معروب، دير قانون النهر. الجميع ينتظر والبنزين في خبر كان وليت ولعل. ووصلت كمية من المحروقات إلى محطة في قرية برج رحال، فبدأ عاملوها بالبيع. وتزاحمت السيارات أمام المحطة حتى عجز من ملأ سيارته عن الخروج. نساء عالقات في سياراتهن مع أطفال صغار. رجل أسمر جلس على دراجة نارية وخلفه زوجته مع طفلة صغيرة يراقب المشهد من بعيد، متردداً في الدخول إلى المعركة التي راحت تحتدم. ساعات قليلة وتنفد الكمية من المحطة، و"من سبق فقد شم الحبق".
محطات "الأيتام" و"الأمانة"
تتلقى المحطات المملوكة لشركات التوزيع كتوتال ومدكو البنزين بشكل دائم. ومحطات هذه الشركات قليلة في الجنوب، بعدما امتلكت جميعة الأيتام حصة الأسد من المحطات، وتليها محطات الأمانة التابعة لحزب الله. وتتقاسم الشركتان السوق الجنوبي مع محطات يملكها أفراد. وهناك محطات صغيرة صمدت أمام حوت "الأيتام" الذي لم يوفر شيئاً لغيره.
منذ بداية الأزمة، توقفت محطات "الأمانة" عن البيع بسبب عجزها عن الحصول على البنزين، بعد العقوبات المفروضة على حزب الله والمؤسسات التابعة له. أما "الأيتام" فتجد صعوبة في توزيع الكمية القليلة التي تصلها من البنزين على محطاتها الكثيرة. وكانت الجمعية (الأيتام) قد منحت الأولوية لمحطاتها الرئيسية، كتلك التي طريق المطار ومجمعها (الساحة) الترفيهي والسياحي التراثي شبه المهجور في هذه الأيام السود. وكتلك التي في بنت جبيل. أما محطاتها الأخرى فأغلقتها تباعاً: محطة السلطانية أغلقت منذ شهور، محطة الميزان في برج قلاويه طلبت منذ أسابيع من موظفيها تقديم استقالاتهم.. والنتيجة أن الضغط كله تركز على المحطات التي يملكها أفراد. وهذه يصلها البنزين بكميات قليلة، ويعجز أصحابها والعاملون فيها عن تلبية الطلب المتزايد عليه.
مغتربون وسوق سوداء وتخزين
وإن كان مجيء المغتربين نعمة على البعض، فإنه نقمة على البعض الآخر. وفرح تجار السوق السوداء بالدولار الاغترابي. وارتفع سعر غالون البنزين 10 ليترات إلى 150 ألف ليرة. أي الأعلى في لبنان كله. ويملأ أحد التجار في قضاء بنت جبيل "الفان" بغالونات فارغة سعة الواحد منها 50 ليتراً. ويقود فانه على الطريق الساحلية، وصولاً إلى بيروت، حيث يملأ الغالونات بالبنزين. أو هو يملأها من متنفذين يهربون الوقود إليه. ثم يعود بها إلى قريته. زبائنه من المغتربين حصراً. وصفيحة البنزين (20 ليتراً) بعشرين دولار أميركي نقداً. وما ينطبق على البنزين ينطبق على باقي السلع التي باتت أسعارها في الجنوب الأغلى في لبنان كله. ومن لا يملك دولاراً لا يملك حياة، قال رجل صادفته راجلاً على طريق مقفرة.
وإضافة إلى تحول الجنوب إلى سوق سوداء كبرى للمحروقات، فقد تحول أيضاً مخزناً كبيراً لها. والجميع يعمل على قاعدة "احفظ بنزينك الأبيض ليومك الأسود". وامتلأت البيوت ببراميل وغالونات البنزين. والبلديات تسلك على المنوال نفسه: تخزين المازوت لتشغيل المولدات الكهربائية.
تعليقات: