كتاب عين تحاكي الجمال
عدسة الكاميرا ترصدآثاراً وألواناً ووجوهاً... وحياة
صحيح أنّ كتاب «لبنان الجنوبي: عين تحاكي الجمال» صادر عن وزارة السياحة اللبنانيّة، إلا أنّه «ليس دليلاً سياحياً كما يتراءى للبعض... بل كتاب المعرفة المصوّرة عن جنوب لبنان». هذا ما يقرّ به الزميل كامل جابر في مقدّمة كتابه الثالث بعد «ذاكرة الجنوب عين وأثر» و«إقليم التفاح: عين ترصد الذاكرة». يؤكّد هذا الإقرار انطباعاً يسيطر على القارئ ما إن يغلق دفّتي الكتاب: فهو لم يتعرّف فقط على المعالم السياحية، ولم يؤخذ بجمال الصور الطبيعية الملتقطة بحساسية عالية فحسب، بل أيضاً تجوّل في ساحات القرى وبات يعرف وجوه عدد من أبنائها وأطعمتهم وأشغالهم... وقصورهم أيضاً.
ليس الكتاب دليلاً سياحياً لآثار صيدا وصور المعروفة، أو لمواقع طبيعية يشتهر بها لبنان، فهو أيضاً حصيلة بحث شخصي قام به جابر للإضاءة على تفاصيل كانت منسية، وكشف النقاب عنها مثل قلعة مارون المهدّدة باجتياح الأبنية السكنية لها.
يشار إلى أن أعواماً ثلاثة تفصل الإصدار الأخير عن سابقيه اللذين عرضا الجنوب أيضاً بالصورة والنص، لكن ما يفصل بينهما أكثر، هو عدوان إسرائيلي واسع في عام 2006، غيّر الكثير من المعالم في الجنوب. تغيير كان السبب المباشر لولادة فكرة الكتاب من جانب المديرة العامة لوزارة السياحة ندى السردوك التي استدرجت العروض لنشر كتاب «يقارن بين ما كانت عليه المواقع الجنوبية الأثرية والتراثية والطبيعية قبل العدوان وما آلت إليه بعده». لكن مع الوقت «تبلورت الفكرة بشكل أفضل، وتوسّعت ليولد الكتاب مع إضافات قمت بها على نفقتي الخاصة» يقول جابر.
الكتاب ضمّ بين غلافيه عدداً من الصور لما كانت عليه مواقع أثرية مثل قلعة شمع، أو مدن تراثية مثل بنت جبيل قبل العدوان وبعده، كما يمكن لمتصفّحه مقارنة بعض صوره بأخرى نُشرت في الكتابين السابقين ليلاحظ أنّ بعضها بات غير موجود بفعل التدمير الجزئي أو الكلّي الذي لحق بعدد من المواقع، وهذا ما يجعل من مواد هذه الكتب وثائق يمكن استخدامها في ملاحقة الإسرائيليين قضائياً وإدانتهم على ما ارتكبوه من جرائم.
مفارقة أخرى تثيرها صور الكتاب، وهي أن المصوّر يخشى عادة ضياع اللقطة التي يتيحها الانبهار بمشهد معيّن رُسم في لحظة ما واختفى بفعل عامل من عوامل الطبيعة أو عفوية اللحظة (غروب، ثلج، ابتسامة)... لكن في حالة الجنوب اللبناني، كان ضياع المشاهد يقترن غالباً باعتداءات صهيونية متكرّرة، وأحياناً باعتداءات أصحاب الكسّارات على المواقع الطبيعية...
هذه الاعتداءات هي التي وضعت الكاميرا بين يدَي جابر ليصبح مراسلاً صحافياً منذ عام 1987، من دون أن تنجح المتابعة الخبرية في حجب عدسة الكاميرا عن طبيعة الجنوب ومواقعه الأثرية والتراثية، إضافة إلى تسجيل عادات أبنائه وتقاليدهم، ووجوههم.
هنا تختلط شخصية جابر الصحافي بالمصوّر، وهذا ما يبرز من خلال حرصه على الابتعاد عن الصور الدموية ومشاهد الدمار في سلسلة معارض الصور التي نظمها عن الطبيعة والتراث والذاكرة والفصول، قبل أن يتوّجها في عام 2005 بإصدار كتاب «ذاكرة الجنوب، عين وأثر» تزامناً مع الذكرى الخامسة لتحرير الجنوب.
واللافت في الصور التي يلتقطها جابر أنها، رغم بساطتها، لا توحي ببديهية التقاطها، بحيث تشعر بأن المصوّر زار المكان مرات عدة قبل أن يحصل على اللقطة التي يريدها كما في صورة مميزة التقطت من قلعة الشقيف لمساحة شاسعة من الجنوب تتدرّج فيها الألوان من أزرق السماء، إلى بياض جبل الشيخ فتدرّج مربعات الأخضر.
يعترف جابر بالأمر حين يقول إنّ اختيار الصور لم يكن سهلاً على الإطلاق: «عشت صراعاً مريراً قبل أن أنجح في اختيار 236 صورة من أصل ألف صورة، هي أيضاً اختيرت من بين عشرات الألوف».
ويمكن الافتراض أنّ صراعاً مماثلاً عاشه جابر قبل أن يستقرّ على تقسيم الكتاب وتبويبه بالشكل الذي خرج به؛ «من القيمة الأثرية إلى عرض حياة المدن وبعض قراها وبيوتاتها التراثية وقصورها، إلى الأسواق الشعبية ومنابع المياه والمحميات الطبيعية، مروراً بعرض بعض الحرف البالغة الأثر في حياة الناس المهددة بالزوال والانقراض».
في الكتاب، لن يكتفي القارئ بأرشفة صور مميزة لما يعرفه عن الجنوب وتخصصات قراها، بل سيكتشف أيضاً المزيد عن قرى متعددة قلّما سُلّط الضوء عليها. متحف الصابون موجود في صيدا، صحيح، لكن صناعتها مستمرة في دير ميماس. تشتهر عيتا بالغار، وحولا أيضاً تصنّع زيت الغار. منها ينتقل جابر إلى تسجيل لحظات موسمية في حياة الأهالي وهم يحضّرون مؤونة الشتاء من قمح وزيت وصابون، ويعرض لمهن قديمة باتت نادرة. وانضمت إلى لائحة القصور والبيوت الجميلة، أسماء قرى بنيت بعرق المغتربين، كما يارون الشهيرة بقصورها.
يقع كتاب «عين تحاكي الجمال» في 240 صفحة من الحجم الكبير، ويحوي 236 صورة ملوّنة، و121 نصاً، ويتألف من 8 أقسام: آثار وتاريخ، أبراج وخانات، متاحف، دور وقصور، مدن وقرى (صيدا، صور، النبطية، بنت جبيل، مرجعيون وجزين)، مقامات ودور عبادة، مواقع طبيعية (مغاور، ثروة مائية، ثروة طبيعية)، عادات وتقاليد (أسواق شعبية، صناعة حرفية، مؤونة الحقول، زراعات ووجوه).
تجدر الإشارة إلى أنّ حفل إطلاق الكتاب سيُقام عند الخامسة من عصر السبت المقبل في قاعة ثانوية السيدة للراهبات الأنطونيات في النبطية.
----------------------------------
وكتبت السفير:
«عين تحاكي الجمال» لكامل جابر
الجنـوب الحقيـقـي
زهير هواري
تذكرك صورتا دارة الراحل علي بزي المنشورتان على الصفحتين 102 و103 ان الجنوب يعيش حرباً، بل حروباً، وأن آخرها قد اصابت من هذه الدارة مقتلاً. وأنها تختلف بين ما كانت عليه الدارة قبل حرب تموز وبعدها. في الصورة الاولى تبدو الدارة ذات القناطر الشرقية العالية بكل جمالياتها. ثلاث في الوسط، تحيط بها اثنتان من ناحيتي اليمين واليسار مع درابزين من الحديد الملون بالأخضر في الطابق العلوي، ذي «الطربوش» القرميدي الأحمر. الدرج الذي يرتقي بك الى العلية يشغل الجهة اليسرى من البناء. والطابق الأرضي لا يختلف كثيراً عن الطابق الاول، وإن كان عدد القناطر ـ النوافذ اقل. اربع صغرى وواحدة كبرى الى جهة اليمين. الدارة تطل على الشارع وكأنها امتداد له. الشارع مزفت بالاسفلت، وظل ابنية اخرى يبدو في الصورة الاولى قريباً من الدارة، السماء زرقاء صافية ملونة بأبيض قطني في الوسط وجهة اليسار.
الصورة الثانية تصفع. الصورة الثانية تحكي ما آل إليه هذا البناء في اعقاب عدوان تموز. القناطر النوافذ في الطابق العلوي ما زالت في مكانها، لكن الخشب طار من اكثرها، من احداها بدت السماء زرقاء. الدارة فقدت رأسها القرميدي، لذلك فإن الحجر الأبيض وحده بخطوطه المستقيمة عند حدود السقف ما زال واضحاً. يبدو الدرابزين مخلعاً في هذا الطابق، والدرج وكأنه فقد وظيفته في تأمين الوصول إليه. هو اصلا تم نسفه وضاعت حجارته التي لم يعد لها مهمة بالاساس بعد ان أحالت القذائف الطابق العلوي الى مجرد جدران مرتفعة على خراب ودمار. الطابق الأرضي جاءته قذيفة في النافذة الثالثة اي نافذة الوسط بالتحديد، تمزقت وتمزق معها الحجر. النوافذ الباقية تفتح على خراب الداخل. خراب المبنى وخراب ما كان فيه. في الجانب الايسر من الصورة اكوام من الركام، وإلى جهة اليسار جزء من سيارة، هو النصف الخلفي منها. تغادر المكان. قد لا تكون السيارة هي سيارة صاحب الدار، لكنها تغادر على عجل، بدليل ان كامل جابر لم يستطع ايقاف سائقها عن الاسراع. اكتفى بلقطة ظهر منها النصف الخلفي، وفي الصندوق عدة التهجير. فرش وبطانيات ملفوفة في مكان لم يعد ممكنا اقفاله، لكثرة ما حمله من موجودات. موجودات تحتاج إليها كل عائلة في رحلة التهجير... لحظة بعد انفتاح العدسة وتغيب السيارة عن النظر، نظر المصور ونظر الدارة، التي تبقى في مكانها مجللة بالصمت. صمت الخراب وصمت ما بعد الحرب ومغادرة اصحاب المكان... وحدها الأنقاض تتولى إخبارك القصة من ألفها إلى يائها. والبيوت سواء كانت متواضعة، كمنازل أهلي وأهلك وأهل كل الناس، او «دارات» او حتى قصورا في روايات تاريخية... روايات تبدأ ولا تنتهي. قد تتوقف في حركيتها لحظة من الزمن، لتقطع سياق الكلام، الكلام الذي تخبره الجدات والأجداد والآباء والأمهات... لكنها ما تلبث ان تعود للاسترسال في الحديث.
الصورتان اللتان تشغلان صفحتين كاملتين، تكشفان عن حرب مرت على هذه الدارة، ثم لا تلبث ان تمر بسرعة في مكانين آخرين هما سجن ومستشفى الخيام. لقطتان وتغيب الحرب لقطتان فقط، اي ان المجموع هو ثلاث لقطات في كتاب من 238 صفحة مصورة. الكل يعلم ان الحرب قد اقامت في الجنوب منذ عقود اربعة في الاقل، هذا اذا لم نتحدث عما قبلها. مع ذلك ينفي كامل جابر عن الجنوب صفة الحرب المقيمة، ينساها عامداً وإن كان يستحضرها في تلك اللمحات الثلاث السريعة. يتناساها عامداً ليستحضر الجنوب بدءاً من بوابته وعاصمته في صيدا وصور وبنت جبيل والنبطية وجزين ومرجعيون وحاصبيا وما فيها من قلاع وأبراج وخانات ومتاحف ودور وقصور ومقامات ودور عبادة ومغاور ومصادر مياه وثروات طبيعية وأسواق شعبية وحرف وزراعات و... يغيِّب كامل جابر عامداً ومتعمداً صورة الحرب ومشاهدها، يكتفي بمقارنات فقط. بين ما كانت عليه دارة علي بزي وما صارت إليه، بين ما كان عليه سجن الخيام وانتهى، وكذلك المستشفى... عدا ذلك جمال يملك جذوره العتيقة، منذ ان خطفت قدرات الإله اليوناني زوس اوروبا ابنة قدموس ملك صور، مروراً بما قبلها وما تبعها.
في عمله الجديد، يطلق كامل جابر العنان لعينه ولجهاز التصوير ان يريا ما لا يرى من ألوان ومشاهد ومناظر، مكملاً «الحفر» في ما بدأه في كتابيه السابقين «ذاكرة الجنوب عين وأثر» و«العين ترصد الذاكرة» موثقا بالصور الاضافية في كتابه الحديث «عين تحاكي الأثر» الجنوب حجارة وبحراً ومرتفعات وأشجارا وأناسا... كأنه يقول لنا للمرة الالف من صوره: انتم لا تعرفون الجنوب الحقيقي، تعالوا لأدلكم عليه... ما تسمعونه وما تعرفونه عن حروب تلاحقت لم يخدش سوى القليل في وجه الجنوب الحقيقي. فقط تحتاجون الى عين كالتي املك... وكاميرا كالتي فيها انقلكم معها الى مجاري الأنهر والشلالات والينابيع ومساحات الثلج وامتداد الشواطئ، ووجوه مزارعي الزيتون والدخان... واولئك الناس البسطاء الذين يترددون على الاسواق الشعبية حاملين معهم صناعاتهم الحرفية... او مجادلين في السلع التي يودون شراءها...
تعليقات: