نفاد المال والوقود.. إلى العتمة الشاملة (Getty)
خلال الأسابيع المقبلة، لن تقتصر مشكلة مؤسسة كهرباء لبنان على شح الدولارات التي يوافق مصرف لبنان على تأمينها، من أجل استيراد الفيول والمازوت المطلوبين لتشغيل المعامل. فسلفة 200 مليون دولار، التي وافق المجلس النيابي على منحها للمؤسسة من الميزانية العامّة، بغياب موازنة تحدد مخصصاتها، لن تكفي المؤسسة لأكثر من نهاية شهر تموز الحالي، أو الأسبوع الأوّل من شهر آب كحد أقصى. علماً أنه كان من المفترض أن تكون هذه السلفة –وفقاً لحسابات وزارة الطاقة- كافية لتغطية المؤسسة لغاية شهر أيلول المقبل، ما يدل على خطأ فادح في تقدير كفاية هذه الأموال. أما بعد استنفاد أموال السلفة، فيبدو أن الأمور قد تتجه إلى إحالة معامل المؤسسة إلى التقاعد تدريجيّاً، بغياب أي مشروع قانون مطروح للموافقة على سلفة جديدة.
خطأ الحسابات
من المسؤول عن الخطأ الفادح في تقدير كفاية الأموال؟ ولماذا لم تكف السلفة مؤسسة الكهرباء حتى نهاية الصيف كما كان متوقّعاً؟ مصادر مؤسسة الكهرباء تشير إلى أنّ أحد الأسباب يتعلّق بمكيدة حصلت في دهاليز المصرف المركزي، إذ تم حسم مشتريات المحروقات في شهر أيار من المبالغ المخصصة للمؤسسة بموجب هذه السلفة، في حين أن القانون الذي صادق على السلفة لم يكن قد دخل حيّز التنفيذ بعد في ذلك الوقت. مع الإشارة إلى القانون لم يصبح نافذاً إلا بعد توقيع موافقة استثنائيّة على تطبيقه من قبل رئيس الجمهوريّة في بداية حزيران. وقد احتاج القانون هذه الموافقة الاستثنائيّة بسبب وجود طعون فيه، وعدم قدرة المجلس الدستوري على البت بها بسبب فقدانه النصاب. في كل الحالات، ساهمت مكيدة المصرف المركزي في التسبب بخلل في حسابات السلفة، من خلال استنزاف أموال إضافيّة من أصل قيمتها، ما أدى إلى نفادها قبل الموعد المقدّر سابقاً.
السبب الثاني لسوء التقدير يتعلّق بحسابات سعر برميل النفط. فخلال العام الماضي، بلغ متوسّط سعر برميل النفط عالميّاً حدود 41.96 دولاراً للبرميل الواحد، وهو معدّل تأثّر بتدهور أسعار النفط عالمياً نتيجة تفشي وباء كورونا، وتراجع الطلب على المحروقات بالتوازي مع إقفال الأسواق العالميّة. وفي حين أن حسابات الدولة اعتمدت على كلفة تمويل مؤسسة كهرباء لبنان خلال العام الماضي، وهي كلفة مرتبطة بثمن المحروقات المطلوبة لتشغيل المعامل، ارتفع ثمن برميل النفط –خام أوبيك تحديداً- ليتجاوز حدود 71 دولاراً أميركياً، أي بزيادة تتجاوز 69% في سعر البرميل قياساً بمتوسّط العام الماضي. وهكذا أدّى سوء التقدير هذا إلى فارق كبير بين كفاية السلفة الفعليّة وتقديرات الدولة اللبنانيّة.
أخيراً، ثمة عامل تقني متصل بسوء التقدير هذا. فحالة معظم معامل الكهرباء شهدت خلال الأشهر الماضية تدهوراً كبيراً من ناحية انتاجيّتها ووتيرة استنزافها للمحروقات، بسبب عدم توفّر قطع الصيانة اللازمة لها، وعدم إجراء الكثير من عمليات الفحص والإصلاح الدوريّة المطلوبة. ولهذا السبب، باتت حاجة المعامل للمحروقات لتوليد مستويات التغذية الكهربائيّة نفسها أكبر من ذي قبل. مع العلم أن مصادر مؤسسة الكهرباء تشدد على أن هذه المشكلة بالتحديد ستتفاقم خلال الأشهر المقبلة، لتهدد تدريجيّاً حتّى قدرة المعامل على توليد الكهرباء.
فوضى القرارات
عملياً، يمكن القول أن المشكلة الفعليّة تتخطى مسألة خطأ الحسابات وحدها، لتشمل جميع نواحي تعامل الدولة مع هذا الملف. فالعديد من الخبراء في القطاع يسألون اليوم: ما جدوى توفير مئات ملايين الدولارات لشراء الفيول، في حين أن المعامل غير قادرة عمليّاً على استخدام معظم طاقتها نتيجة عدم توفّر الدولارات لإجراء الصيانة وشراء الزيوت والمواد الكيماويّة وغيرها؟ وهل يعلم المعنيون أن معظم طاقة المعامل غير مستخدمة اليوم نتيجة عدم توفّر هذه الحاجات التي لا تتخطى كلفتها عشرات ملايين الدولارات؟ وفي الوقت نفسه: ما جدوى التفاهم مع شركة كاربورشيت لعودة بواخر الكهرباء للعمل، وبالتالي فوترة الديون على الدولة، طالما أن لبنان لا يستطيع تأمين الفيول لاستخدام المعامل الثابتة القديمة بكامل انتاجيتها؟
في كل الحالات، وحتّى إذا تم إيجاد معالجة ثغرة عدم توفّر الاعتمادات لشراء الفيول والمازوت، وحتّى إذا تم توفير الاعتمادات لتمويل عمليات الصيانة وشراء الزيوت، فلا يوجد حتّى اللحظة تفاهم مع حاكم المصرف المركزي حول كيفيّة توفير العملة الصعبة من الاحتياطات لهذه المسائل. فالاعتمادات وإن وفّرت السيولة المطلوبة بالعملة المحليّة من الميزانية العامّة، لا توفّر فعلياً الغطاء القانوني الذي يطالب به حاكم مصرف لبنان، لتشريع المساس باحتياطات المصارف الإلزاميّة المتبقية لديه. باختصار، كل ما يجري حالياً كناية عن فوضى كبيرة في القرارات والمعالجات من قبل أطراف متعددة، لا تجمعها رؤية واضحة لمعالجة هذا الملف.
من أين ستأتي الدولارات؟
وفقاً لأرقام العام الماضي، بلغت تحويلات الخزينة العامّة لمؤسسة كهرباء لبنان حدود 810.52 مليون دولار حتى نهاية شهر تشرين الثاني، ما يعني أن قيمة هذه التحويلات تجاوزت –وفقاً لهذه الوتيرة- حدود 885 مليون دولار في نهاية العام 2020، بمعدّل يقارب 74 مليون دولار شهرياً. لكن بالنسبة إلى العام الحالي، وإذا أخذنا بالاعتبار نسبة الارتفاع الحاصل حالياً في أسعار المحروقات، يمكن الاستنتاج بسهولة أن حاجة مؤسسة الكهرباء للتحويلات لتمويل شراء المحروقات ستتخطى 125 مليون دولار شهريّاً هذه السنة. مع الإشارة إلى أن اعتماد المؤسسة على الفواتير المسعّرة بالليرة اللبنانيّة، وتدهور قيمة الليرة مقابل الدولار الأميركي، يعزز من إدمان المؤسسة على التحويلات. وعلى أي حال، تشير هذه الأرقام إلى أن الدولة بحاجة إلى أكثر من 625 مليون دولار حتّى نهاية السنة، لتضمن استمراريّة عمل المؤسسة، بينما لا يبدو أن مصرف لبنان مستعد لتوفير هذا المبلغ من احتياطاته. مع الأخذ بالاعتبار أيضاً أن هذه القيمة لا تشمل كلفة عقود الصيانة وشراء قطع الغيار وإيجار البواخر.
في المقابل، لا يبدو أن ثمّة بدائل وحلولاً قادرة على انتشال البلاد من هذه الورطة. أما ما يفاقم من خطورة الأزمة، فهو تزايد الحاجة تدريجياً إلى مازوت المولدات الخاصّة بالتوازي مع زيادة ساعات تقنين مؤسسة الكهرباء. وهو ما يزيد من الضغط على السيولة التي يوفرها مصرف لبنان لاستيراد المحروقات، نظراً لحاجة المولدات الخاصّة إلى كمية أكبر من المحروقات لتوليد التغذية الكهربائيّة نفسها مقارنةً بمولدات مؤسسات كهرباء لبنان. علماً أن منشآت النفط في طرابلس والزهراني أعلنت خلال الساعات الماضية التوقف كلياً عن تسليم المازوت، محتفظة بكميات قليلة فقط، نظراً لتأخر مصرف لبنان في فتح الاعتمادات للاستيراد.
الارتطام الكبير لم يبدأ بعد، هذا ما يؤكّده جميع المتابعين. فدخول البلاد مرحلة الانقطاع الكلي في تغذية مؤسسة كهرباء لبنان مطلع الشهر المقبل، سيترافق مع شح المازوت الذي يستفيد منه حالياً أصحاب المولدات الكهربائيّة الخاصّة لتشغيل مولداتهم، وفي ظل عدم قدرة الأسر اللبنانيّة على تحمّل كلفة الاشتراكات، في حال رفع الدعم كلياً عن استيراد المازوت. وهكذا، قد تتجه البلاد تدريجياً إلى مرحلة العتمة الشاملة التي لا تتوفّر فيها الكهرباء إلا لأكثر المؤسسات حيويّة، كالمستشفيات أو المصارف أو المؤسسات الأمنيّة مثلاً. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تشهد البلاد شللاً واسع النطاق، في جميع المرافق الاقتصاديّة الأساسيّة الأخرى، خصوصاً إذا تركت هذه الأزمة آثارها على قطاع الاتصالات والإنترنت.
تعليقات: