أزمة المحروقات مستمرة.. حتّى إلغاء الدعم كليّاً

بعد رفع الدعم ستتضاعف أسعار المحروقات محلياً بنحو خمس مرّات (مصطفى جمال الدين)
بعد رفع الدعم ستتضاعف أسعار المحروقات محلياً بنحو خمس مرّات (مصطفى جمال الدين)


ضربت أزمة المازوت مفاصل الحياة في لبنان طوال الأيام الماضية: من المولدات الخاصّة التي بدأت بالتوقف عن العمل بسبب عدم توفّر المحروقات، إلى المخابز والأفران، وصولاً إلى المستشفيات التي باتت تعد قدرتها على تشغيل مولداتها بالساعات. والمعلومات المتداولة داخل مصرف لبنان تشير إلى أنّ الحاكم وافق على فتح الاعتمادات اللازمة لتفريغ باخرتي مازوت فقط، لكنّ هذه الكميّة غير قادرة على تلبية طلب الأسواق على هذه المادّة لفترة تتجاوز نهاية الشهر الحالي. وهذا إذا استمرّت الشركات المستوردة باعتماد مستوى التقنين الكارثي المعتمد حالياً في عمليات البيع.

باختصار، أزمة شح المازوت مستمرّة بشكلها الحالي طوال الأيام المقبلة، بمعزل عن تفريغ هذه الشحنات. أمّا وزارة الطاقة والمياه، فبدأت تُعد العدّة لوقف دعم استيراد هذه المادّة عبر تحديد آليات خاصّة لاستيراد المازوت غير المدعوم، ما يوحي بأن كل ما يجري ليس سوى تجفيف للسوق في انتظار رفع الدعم الكلّي.


التسوية الكاذبة

قبل شهر تقريباً، أعلن في القصر الجمهوري عن تسوية بين وزارة الطاقة ومصرف لبنان، قضت بالاستمرار في تمويل عمليات دعم استيراد المحروقات من احتياطات مصرف لبنان، مقابل زيادة سعر الصرف المعتمد لبيع المستوردين الدولارات من 1507.5 ليرة مقابل الدولار إلى 3900 ليرة. وفي تلك المرحلة، جرى تمرير الزيادة السريعة والقاسية في أسعار المحروقات على أنها تضحية مطلوبة مقابل عودة المازوت والبنزين إلى الأسواق. وهذا ما ساهم بتقبّل الشارع لهذه الزيادة. علماً أن مصرف لبنان أشار في بيان مواز للاجتماع، إلى استعداده للاستمرار بتوفير الدعم ولو أدّى ذلك إلى المس باحتياطات المصارف الإلزاميّة المودعة لديه، على أن يكون ذلك بموجب آليّة اقتراض تستدين بموجبها الحكومة هذه المبالغ من المصرف المركزي.

وبعد مرور شهر على تلك التسوية، لم يحصل أي تحسّن على مستوى كمية المحروقات المتوفرة في الأسواق. لا بل استمرّ مصرف لبنان بتقليص الكميات التي يوافق على دعم استيرادها من احتياطاته بشكل تدريجي، وصولاً إلى مرحلة تجفيف السوق كلياً من بعض هذه المواد كالمازوت مثلاً. ببساطة، لم تكن تلك التسوية سوى خطوة أراد منها حاكم مصرف لبنان التمهيد لرفع الدعم، عبر زيادة الأسعار بشكل متدرّج، من دون أن يعالج أزمة انقطاع المحروقات الحاليّة. وبما أن الجميع كان يعلم أن خطوة رفع سعر الصرف المعمول به للاستيراد، سيتبعها رفع تام للدعم لاحقاً، زادت عمليات التخزين والاحتكار والتداول في السوق السوداء، بدل بيع المواد المستوردة بالتسعيرة الرسميّة، ما فاقم من حجم المشكلة.


آليات الاستيراد البديلة

وهكذا، يستمر مصرف لبنان بلعبة الضغط على اللبنانيين عبر تجفيف الأسواق كليّاً من المواد المدعومة، ومنها المحروقات، لتقبّل خطوة انحسابه لاحقاً من عمليّات الدعم مقابل عودة هذه المواد إلى السوق. والتحضير لهذه الخطوة، بدأ فعلياً في وزارة الطاقة والمياه، من خلال العمل على آليات بديلة لاستيراد المازوت غير المدعوم، من دون المرور عبر المصرف المركزي أو الحصول على إجازات استيراد مسبقة. مع العلم أن هذه الخطوة تتم حالياً بحجّة تمكين الصناعيين والمؤسسات التجاريّة من الحصول على المازوت، من دون الاضطرار إلى انتظار موافقة مصرف لبنان على اعتمادات الاستيراد.

بمعزل عن الأسباب المعلنة لهذه الإجراءات، تشير مصادر من داخل الشركات المستوردة للمحروقات، إلى أن مجرّد ضخ المازوت غير المدعوم في السوق يعني فعلياً الخروج من مرحلة الدعم. ففي الوقت الراهن، وبسبب الخلل في موازين العرض والطلب، تتسرّب النسبة الأكبر من المازوت المدعوم إلى السوق السوداء، ليتم بيعه بأضعاف التسعيرة الرسميّة، بغياب أي قرار رسمي يقضي بمكافحة هذه الظاهرة. أما دخول المازوت غير المدعوم إلى السوق، فسيسهل هذه العمليّة ويوسّع نطاقها إلى حد كبير من خلال بيع المواد المدعومة على أنها مواد غير مدعومة، وخصوصاً في ظل الفوضى التي تحكم السوق اليوم وصعوبة تتبع مآل المواد التي يجري استيرادها بعد توزيعها.

ولهذه الأسباب، وبمجرّد تطبيق هذه الآليّة البديلة، سيندر تدريجياً العثور على المواد المدعومة بعد تسربها نحو ما يُعرف اليوم بالسوق السوداء، والتي ستصبح سوق شرعيّة تختلط فيها المواد المدعومة بالمواد غير المدعومة وتُباع بالسعر الأعلى. وفي النتيجة سيتم ترك المواد غير المدعومة لتشبع حاجة السوق، بعد أن يصبح الدعم نفسه مسألة عبثيّة وغير مجدية. مع الإشارة إلى أن هذا السيناريو تحديداً هو ما حصل سابقاً مع مستوردي المواد الغذائيّة قبل أن يجري رفع الدعم عن هذه المواد.

ولم تضمّن وزارة الطاقة آليات الاستيراد الجديدة - للمازوت غير المدعوم- وأي ضوابط تمنع انزلاق الأمور إلى هذا المنحى، ما يدل على أن ما يجري الإعداد له فعلياً هو خطة تضمن الخروج من مرحلة دعم استيراد المازوت كليّاً مع الوقت، لا مجرّد خطّة تنحصر مفاعليها في تأمين المازوت للمصانع كما تم تسويق المسألة في البداية. مع الأخذ في الإعتبار أن الآلية الجديدة تحرر مستوردي المحروقات كلياً من فكرة تأمين رخص الاستيراد المسبقة، ومن أي رقابة يمكن فرضها على المواد المستوردة.


كارتيل المحروقات

كارتيل المستوردين والموزعين تبدلت أولوياته منذ فترة، من المطالبة بزيادة كميات المحروقات التي يوافق مصرف لبنان على دعمها من احتياطاته، إلى المطالبة برفع الدعم كلياً والتخلّص من عبء آلياته، رغم معرفة هؤلاء أن حجم الطلب على المحروقات يتقلّص إلى حد كبير بعد رفع الدعم. وهذا التبدّل في الأولويات يرتبط اليوم بمسألتين: أولاً، عدم اقتناع المستوردين والموزعين بهامش الربح المحدد لهم حالياً، ورغبتهم بآليات استيراد جديدة تحدد ربحهم بنسبة مئويّة من ثمن المحروقات الإجمالي. وثانياً، التفاوت الكبير ما بين الموردين في حجم الاعتمادات التي يوافق مصرف لبنان على فتحها بشكل استنسابي، وهو تفاوت يتأثّر بطبيعة العلاقات السياسيّة التي يمتلكها هؤلاء. علماً أن تفاوت الاعتمادات المرصودة للموردين يؤدّي إلى تفاوت مواز في حجم العمليات ما بين الموزعين أيضاً، خصوصاً أن العديد من الشركات المستوردة تمارس أيضاً أنشطة توزيع المحروقات وبيعها.

ومن الواضح أن هناك إجماع ضمني بين مصرف لبنان ووزارة الطاقة وكارتيل الموزعين والمستوردين، على التخلّص من آليات دعم المحروقات، ولو بشكل متدرّج ووفق وسائل ملتوية، بينما يبدو أن كل طرف من هذه الأطراف الثلاثة يملك مصالحه وأسبابه الخاصّة التي تدفعه بهذا الإتجاه. أما النتيجة المتوقعة بعد رفع الدعم، فستكون تضاعف أسعار المحروقات محلياً بنحو خمس مرّات، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع في كلفة النقل واشتراكات الكهرباء وأعمال المؤسسات الصناعيّة والتجاريّة وغيرها.

في الخلاصة، سيكون على اللبنانيين ترقّب تداعيات هذا المسار الموجعة، سواء من جهة أثره على أسعار المحروقات، أو من جهة أثره على سعر الصرف بعد أن يُحال طلب مستوردي المحروقات على الدولار إلى السوق الموازية. وفي الحالتين تكون النتيجة المزيد من الارتفاع في معدلات التضخّم، والمزيد من التدهور في قدرة الناس الشرائيّة. وفي الوقت الراهن، تتعثّر البطاقة التمويليّة لفقدان التمويل، فيفقد اللبنانيون شبكة الأمان التي كان من المفترض أن تقيهم شرّ هذه المرحلة. وتتعثّر منصّة مصرف لبنان المخصصة للتداول بالعملات الأجنبيّة، ويفقد المصرف القدرة على التدخل في السوق والتأثير في سعر الصرف. وبذلك تدخل البلاد هذا المنعطف القاسي مكشوفةً على جميع المخاطر المعيشيّة والنقديّة، وبلا أي أدوات حماية.

تعليقات: